الكعكة قبل كل شي

TT

كنت قد أقسمت بأن لا أكتب عن العراق ولا أتتبع أخبار العراق، بيد أن توالي المصائب وتعاظمها جرني إلى الحنث بقسمي، فأستغفر الله.

قدم أعرابي قصعة من الثريد لضيف زاره، وسأله الضيف: ماذا تسمون هذا الطعام؟ قال له الأعرابي: إنه السخين. عاد فسأله: وماذا تسمونه إذا برد؟ قال: وهل نتركه حتى يبرد؟

تجسم هذه الحكاية البسيطة مشكلتنا جميعا، فلا صبر لنا ولا إيمان بسنة التطور التي تقوم على التحول التدريجي. وهذا ما أوقع العراق بمحنته الحالية. لعل بعض القراء يتذكرون ما كتبته بعد سقوط صدام مباشرة. قلت إن المصلحة تتطلب أن يترك الحكم بيد السنّة حتى يستقر الوضع ولا يجد الغرباء حاجة للتدخل ونشر الإرهاب ولا تتفجر الحزازات بين الطوائف والقوميات. فانتقال الحكم إلى الشيعة في العراق يمثل تغيرا استراتيجيا في المنطقة ونهاية قرون من الحكم السني في عاصمة الخلافة. ولا بد لمثل هذا التغير الخطير أن يهز أعصاب الكثيرين وعلى رأسهم أنصار «القاعدة» و«البعث». وبعد مرور هذه المرحلة الانتقالية بسلام وهدوء ورفاه اقتصادي تجري انتخابات شرعية تفوز بها الأكثرية الشيعية، فيجري التحول في وضع مستقر وأحوال عامة مرضية ورفاه شامل وأعمال متوفرة للجميع. بدلا من ذلك، زج ممثلو الأكثرية أنفسهم في هوة سحيقة وأصبحوا يتحملون أوزار الوضع المضطرب والمأساوي. وكأني بهم وقد أوقعوا أنفسهم في مصيدة. لا كهرباء ولا ماء ولا مجاري ولا تلفونات ولا بريد ولا خدمات صحية يعتمد عليها، وطبعا ولا أمن. وراح الناس يترحمون على أيام صدام حسين، ناهيك عن أيام الحكم الملكي. وسمعنا أصواتا تعلق على هذا الوضع وتقول إن الشيعة لا خبرة لهم في الحكم ولا مقدرة لهم عليه، ففشلوا.

كان الإنجليز في الواقع قد أشاروا على القيادة الأمريكية بأن تترك الحكم بيد السنة فرفضوا النصيحة. فالأمريكان المغرورون بقوتهم وثروتهم لا يصغون لأحد ويعتبرون الناصح مثل الناطح، أو كما جاء في المثل أصلا، مثل الناكح.

لم يحصل ذلك ووجدت الأحزاب الشيعية والكردية قصعة السخين أمامها وتصرفت تصرف الأعراب ولم تترك الثريد حتى يبرد. فنحن وقد اعتدنا على سنن الجوع والمجاعات لا نستطيع أن نخرج لقمة دولمة سمينة من حلقنا وقد وصلت للزردوم. أسرع القوم لتلاقف المناصب وتقاسم الوظائف. ومن وجدوا للمال سبيلا تقاسموا الملايين ثم خرجوا وغسلوا أيديهم من العراق.

الاستمرارية واستمرارية القوة الانتباذية، ركن أساسي من سنن الطبيعة وعلم الفيزياء والمجتمع والسياسة، وهذه هي المشكلة التي ستواجهها أية حكومة تتسلم زمام الأمور في البلاد. كيف سيقضون على الإرهاب، وعلى الفساد، وعلى التفسخ الاجتماعي، وقد مرت سنوات على كل ذلك واعتادت فئات من الناس الآن على العيش في إطارات كل هذه المناحي الكريهة؟ الاستمرارية نعمة ونقمة، ونقمة الاستمرارية أصبحت الآن نصيب العراق.