نعم لتركيا المستعربة لا لتركيا الإمبراطورية

TT

أرى تركيا بعينين عربيتين، وقلق كبير، وأمل أكبر. عندما أكتب لا أنطلق من كوني سورياً، إنما من كوني عربياً. لكن لا أدري لماذا أشعر بمشاعر متناقضة، تتراوح بين القلق والخوف والأمل، كلما كتبت عن تركيا. ربما لأن سورية بلدي تحملت، بحكم الجوار والجغرافيا، أكثر من أي بلد عربي آخر، وطأة احتلال مظلم مغلَّف بالدين، دام أربعة قرون.

استدارةُ تركيا من أوروبا إلى حديقتها الخلفية (العربية) ليست حدثا عارضا وسهلا. لعله اليأس من دخول نادٍ مسيحي وعنصري، هو الذي دفع نظاماً تركياً ذا كبرياء، وذا حنين إلى الماضي، للعودة إلى الشرق. إلى لعب دور طبيعي فيه، دور أغفله غباء الكمالية العلمانية نحو ثلاثة أرباع قرن.

في غياب الإرادة العربية الواحدة، فالاستدارة التركية لتعريب الدور والسياسة يجب أن تثير، في نفس ورؤية كل عربي، هذا الشعور المتناقض بين القلق المتخوف، والأمل الكبير: هل الاستشراق التركي خير للعرب؟ أم هو شر، كالاستشراق الفارسي المتدخل بفظاظة ورعونة، في عالم عربي ضعيف وممزق؟.

السُذَّجُ من المتأسلمين العرب يرون، في هذه الاستدارة، أملا في استعادة الخلافة الإسلامية! هؤلاء ينسون أن هذه الخلافة، عندما سقطت من اليد العربية، تحولت إلى قيد استعماري احتلالي للعرب في وطنهم. هذا القيد البغيض شكَّل، على مدى ألف سنة، خطرا هائلا على انتمائهم القومي، وهويتهم التاريخية، ودورهم الإقليمي، وثقافتهم، بما فيهم لغتهم وفهمهم الروحي للدين، وأخيرا على انفتاحهم على العالم، تواصلا معه. أخذاً منه. وعطاءً له.

الأمل العربي كبير في حسن النية التركية. هذا الأمل وليد الاعتقاد بأن النظام التركي المتأسلم ينطوي على ذكاء مبادر، ذكاء فاهم للعلاقة الدولية الحديثة: لا مكان في العصر لحلم بامبراطورية بالية. الوجه الآخر للأمل هو في طبيعية الاستدارة التركية. فهي ليست موجهة نحو العالم العربي فحسب.

تركيا تستدير أيضا نحو دول آسيا الوسطى المتحررة، من حدود الصين إلى الأناضول، من نير امبراطورية سوفياتية بالية. منطقة تقطنها شعوب تركية. لتركيا فيها نفوذ كبير منافس لجارتها التاريخية روسيا، ولجارتها الأخرى إيران التي تعادي أحد هذه الشعوب (أذربيجان التركية الشيعية) وتحالف أرمينيا ضدها! لو كانت السياسة العربية واحدة، لاستغلت الاستدارة التركية، في إقامة توازن إقليميي بين تركيا وإيران، توازن يحفظ للعرب استقراراً يخدمهم، ويردع أياً منهما عن التدخل الفظ في شؤونهم.

هل الاستدارة التركية منافسة لإيران؟ العلاقة الاقتصادية والتجارية بين البلدين تُقَيَّم بمليارات الدولارات. المصلحة مشتركة في هدهدة غُلَواء التطلعات الكردية. مع ذلك، يبدو الاستشراق التركي مطلا على العرب من الباب المشروع، وليس من المدخنة أو النافذة التي يطل منها الاستشراق الفارسي.

كإيران، تجد تركيا في تعاطيها القضية الفلسطينية مدخلا لإثارة اهتمام العرب بالدور التركي. وكإيران، تجد تركيا في سورية مفتاحا للعالم العربي، في غيبة العراق المحتل أميركياً، والموالي إيرانياً. إلى الآن. تبدو تركيا المستعربة إيجابية. لا تمارس التناقض الإيراني المكشوف بين استغلال بعض الفلسطينيين، لعرقلة الحل، والتظاهر العلني بأن قرار السلم متروك للعرب وللسلطة الفلسطينية.

بل ها هي تركيا تستغل علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل، للتوسط بينها وبين سورية. الوساطة جعلت سورية تهتم بتركيا اهتمامها بإيران. سورية بشار تتحرك، بذكاء ديبلوماسي، لنزع الألغام من طريق الاستشراق التركي. بشار زار أرمينيا وأذربيجان. يستقبل زعماء اليونان وقبرص. مَهَّدَ للمصالحة التركية / الأرمنية.

في مستهل هذا الحديث في الثلاثاء الماضي، تحدثت طويلا عن لواء اسكندرون السوري الذي ضمته تركيا. أعتقد أن الحديث عنه من لزوميات ما لا يُلزم بشار وإردوغان. كلا البلدين تجاوز عقدة اسكندرون. لا سورية تطالب به. ولا تركيا منزعجة من وجود اسكندرون على ورق الخرائط السورية. بشار وإردوغان سياسيان عمليان وواقعيان جدا. فتحا الحدود المغلقة. لا فيزا. الفرصة كبيرة للحدوديين ذوي القربى والجيرة (عرب. أتراك. أكراد. سريان. أرمن).

الفرحة كبيرة لدى عرب لواء اسكندرون. تَقَطَّعَتْ بهم صلة القربى. يَعرفون فحسب عربَ التلفزيون. يتداولون لغتهم وعروبتهم سرا. يتعلمونها. يحكونها في بيوتهم. كيف بهم اليوم، وفى استطاعتهم عبور الحدود غُدُوَّا ورواحا، بلا رقابة، بلا تأشيرة؟ هم اليوم أحسن حالا من عرب الجولان الممزقين بالقوات الدولية على خطوط النار منذ 42 عاما.

لم يُظلم بلد عربي كما ظُلمت سورية الشام. ضُمت مدن الساحل (بيروت. طرابلس. صيدا) مع سهل البقاع إلى لبنان (الكبير). انتُزعت فلسطين هبةً لليهود. أقيمت دولة مستقلة في الأردن. سُلخ لواء اسكندرون. احتل الجولان.

هل رجب طيب إردوغان في خطر؟! في تركيا، نظام ديمقراطي. السلطة قابلة للتداول بين اليمين واليسار. بين الإسلاميين والعلمانيين، بمعنى أنه ليست هناك دائما سياسة تركية خارجية ثابتة ومستقرة. إردوغان يتمتع بشعبية كبيرة، وأغلبية نيابية مريحة. لكن هناك في أوروبا وأميركا وإسرائيل مَنْ يعتبره تجاوز الخط الأحمر المسموح به.

إردوغان يتمتع بمرونة ذكية. سمح بالتموين اللوجستي عبر تركيا للقوات الأميركية في العراق. إذا كانت تركيا مرفوضة كعضو في نادي النخبة (الاتحاد الأوروبي) فهي ما زالت الجندي الحارس له منذ الحرب الباردة (الجيش التركي ثاني أكبر جيش أوروبي بعد الجيش الألماني).

شاركت تركيا في حماية حدود إسرائيل مع لبنان. لكنها رفضت المشاركة في حرب أفغانستان. فرنسا وألمانيا ترفضان أوروبة تركيا بشدة. أوروبا وأميركا تخشيان مزيدا لأسلمة تركيا. لا تستريحان لتخفيفها الحصار الغربي لإيران. فوق كل ذلك، يأتي فك إردوغان لعلاقة تركيا الاستراتيجية مع إسرائيل.

ألغى إردوغان، بموافقة العسكرية الكمالية، التعاون العسكري مع إسرائيل. فقدت إسرائيل المجال الجوي التركي الذي أغار طيرانها، تسللا منه، على سورية. وهو اليوم ممنوع من استعماله، لتوجيه ضربة جوية لإيران. عندما منع إردوغان إسرائيل من المشاركة في المناورات الجوية لقوات الناتو، انسحب الأوروبيون والأميركيون احتجاجا.

تلقى إردوغان ضربة تحذيرية على اليد. في ندوة دافوس الأخيرة، أُجلس صحافي أميركي على منبر جلسة الحوار بين إردوغان وشمعون بيريس! عندما تشدق المهرج بيريس مباهيا بديمقراطية إسرائيل، وبخه إردوغان على مجزرة غزة، فمنعه الصحافي ديفد أغناطيوس من الاسترسال في الكلام.

هل أفكر في ما لا يمكن التفكير به ؟ في عالم الاستراتيجية الغربية، عندما لا يسمح لزعيم شرقي بتجاوز مصالح وسياسات الدول الكبرى. عندما يصبح مرهِقا ومتعِبا لها، تتشابك الأيدي للتخلص منه، باغتياله سياسيا وشعبيا. في حالة العجز، يتم ترحيله جسديا. الأمثلة كثيرة: الإيرانيان محمد مصدق والشاه بهلوي. المصري جمال عبد الناصر. الفلسطيني ياسر عرفات. الإسرائيلي إسحق رابين. العراقي صدام حسين. السويدي أولف بالمه..

أحكم الزعماء حراسة أنفسهم. لكن الحراسة مهما كانت قوية يمكن اختراقها. لماذا تُبدي المخابرات الأميركية قلقها، علناً الآن، على حياة الرئيس الأسود أوباما؟!