فرسان المناخ الجدد

TT

أضف الآن إلى قائمة الأشياء التي تغضب الشيخ مهدي عاكف، الغاضب دوما، ضد الدول العربية هو موضوع التغيير المناخي، ولماذا لا تكون هناك كلمة مسموعة للدول العربية في هذه المشكلة العالمية.

هذا ما جاء في رسالته الأسبوعية الأخيرة المعنونة بـ «الأوطان بين تراجع الدور وفجور الخصومة».

الواقع أن المرشد الغاضب لم يخصص من بيانه إلا جملة سريعة عن التغيير المناخي، وهو تحدث بإسهاب وغزارة عن موضوعاته المفضلة: المقاومة ومحاربة الأنظمة الظالمة ومعها الدول الاستعمارية والصليبية والصهيونية، ومر في الطريق على حكومة باكستان التي تحارب «الشرفاء» في (وزيرستان) ووادي سوات، وأن نظام مصر «الجاثم على صدورنا» حسب وصفه، قد أضعف الانتماء الإسلامي لدى الشعب. أظن المرشد كان يريد القول إن النظام قد عطل الإخوان عن الاستحواذ على هذه المشاعر الانتمائية التي هي موجودة بسخاء وحرارة لدى المصريين دون تدبير أو إدارة من المرشد وإخوانه.

هذه الموضوعات المفضلة لدى المرشد وإخوانه ليست جديدة، فهي أغنية مكررة، ولا يمل الإخوان من وصم كل مخالف لهم من أنظمة أو تيارات أو شخصيات أخرى بخيانة «الأمة» والارتهان للأعداء، طبعا لا تسأل هنا عن تحديد واضح ومباشر لكلمات واسعة المعاني مثل: الأمة والأعداء، لأنهم هم فقط من يحدد من يدخل في إطار الأمة ومن يدخل في إطار الأعداء.

غير أن هذا كلام متشعب وطويل وقديم مع هذه الجماعة التي أحدثت أكبر انشقاق خطير داخل الإسلام السني الحديث منذ أطلقها الشاب الطموح حسن البنا في الإسماعيلية 1928، عبر توصلها إلى معادلة وتركيبة ضارة في كيمياء السياسة والدين، ما زلنا نعاني منها، وسنظل حتى نخرج من نفق العطالة الفكرية والنقدية في عموم المجتمعات العربية الجريحة بفقرها وجهلها وكرامتها التاريخية المهدورة، وهماً أو صدقاً.

الجديد في مناورات الإخوان هو توظيف القضايا العالمية التي لا لون لها ولا دين في طاحونة الصراع مع الدول العربية وكسب نقاط جديدة في هذا النزال السياسي المزمن.

موضوع الاحتباس الحراري هو موضوع دولي، وأزمة تشمل البشر الساكنين على الكوكب كلهم دون تفرقة، ومسؤولية الدول العربية عنها تشبه الصفر فليست هي المتسببة بانبعاث الغازات الضارة بل الدول الصناعية الكبرى، ونحن، والحمد لله! لسنا من هذه الدول الصناعية، ما زلنا نفضل الطبيعة العذراء! فعلام يحنق المرشد على هذه الدول العذراء؟! ولماذا يطالبها بكلمة مسموعة في موضوع التغيير المناخي؟! أليس من صفات العذراء الخفر والسكوت؟! ألا يعلم فضيلته ذلك؟! لكن ضرورة التهييج والشيطنة للخصم تقتضي توظيف كل شيء من وادي سوات في باكستان إلى الاحتباس الحراري، كل هذه أمور، حسبما يريد عاكف وكل «العاكفون» إفهامنا، لو زالت الأنظمة العربية وحل محلها الإخوان المسلمون، ستصبح محلولة والدنيا حلوة مع الإخوان..

لكن مهلا! الإخوان ليسوا وحدهم في حلبة المناخ ولوم الحكومات العربية على اعتلاله، أو عدم الدفاع عنه، فهناك أيمن الظواهري، القابع في جبال (وزيرستان) وهي نفس الجبال التي غضب المرشد من استهداف حكومة باكستان لها ولمن فيها من قاعديين وطالبانيين ومن يحميهم. الظواهري أيضا أدلى بدلوه في معركة المناخ والاحتباس الحراري، ففي «اللقاء المفتوح مع الشيخ أيمن الظواهري الحلقة الثانية»، والذي عرضته بعض مواقع الإنترنت أخيرا، أبدى رجل القاعدة الثاني «اهتمامات بيئية» حمّل خلالها الغرب مسؤولية ظاهرة الاحتباس الحراري.

ومثل الشيخ عاكف كانت اللمحة البيئية خاطفة في كلام الظواهري والتركيز كان على الجهاد في العراق والصومال وباكستان إضافة إلى لبنان.

الفرق هو في «النكهة» القاعدية العالمية، والنكهة الإخوانية الإقليمية، في الفجاجة القاعدية المباشرة، والمراوغة الإخوانية المعتادة، لكنها نفس رؤوس الأقلام المعروفة في كل بيان وخطبة ومقال ولقاء، والجديد بين الرجلين إضافة بند «المناخ»، والاثنان صارا من «فرسان المناخ» وفرسان المناخ هنا غير فرسان المناخ المسرحية الكويتية الكوميدية الشهيرة عن انهيار البورصة بداية عقد الثمانينات، لكن يجمع بين فرسان المناخ الحاليين والمسرحية الكويتية عنصر الفهلوة والمغامرة الاستثمارية والتلاعب بالكلمات. غير أنه يحفظ للظواهري، والحق يقال، صوابه في توجيه الاتهام الصحيح إلى من تسبب بمشكلة المناخ العالمية وهم الغرب وليس العرب، ربما لأن المناخ في جبال (وزيرستان) أنقى من مناخ وضجيج شوارع القاهرة الصاخبة.

بكل حال، وبعيدا عن المضحكات المبكيات على طريقة شاعرنا المتنبي، لابد من التوقف عند هذه الخفة السياسية والشطارة المكشوفة في حشد وتجميع و«كركبة» كل شيء يوجد في الطريق ضد الخصوم السياسيين، كما أنه لابد من التفريق بين القضايا الأصيلة والقضايا المنحولة لدى كل تيار، فليس من المعقول أن أصدق أن قضية التغيير المناخي تحتل هذه الأهمية لدى الظواهري أو عاكف، حتى وإن تغنيا بها، ومن باب أولى ليس من المصدق أن يكون كلام عاكف أو غيره عن الديمقراطية والتعددية قضية أصيلة ذائبة في خيوط النسيج الفكري والنفسي لهذه الجماعة وما شابهها من الجماعات، هي قضايا تؤخذ في الطريق وتحمل على العربة، ربما تكون في أعلى العربة واضحة للناظرين، لكن هذا لا يعني أنها جزء أصيل من هذه العربة، إنها مجرد حمل يؤخذ من الأرض في أي لحظة ويرمى من العربة في أي لحظة أيضا، وهكذا هو الحال مع الديمقراطية أو قضية المرأة أو قضية الأقليات أو قضية التعاون مع المنظمات الدولية أو قضية الموقف من الفنون، وصولا إلى مسألة التغيير المناخي، كلها قضايا توظف في سبيل التمايز والمعارضة أو حصد عواطف الشارع، لكن الأصل الأصيل والجوهر في الخطاب الأصولي «من ظواهريه إلى عاكفه» هو القول بأن كل ما هو موجود من فساد وانحراف أو أغلاط وأخطاء، بل قل خطايا، هو بسبب فقدان الشرعية، وهذه الشرعية ليست نابعة من رأي الأغلبية، وحتى لو كانت الأغلبية مع رؤية الإخوان وأمثالهم من الجماعات لمفهوم الشرعية، فهي مجرد أغلبية مساندة ومعززة للشرعية المطلوبة ولكنها ليست «منبع» الشرعية ولا مستندها، بل منبع الشرعية هو الشريعة الإسلامية والحاكمية ومن يفسر ويشرح هذه الشريعة وهذه الحاكمية هم الإخوان، ومن ماثلهم، لأن الشريعة والحاكمية هي مفاهيم وليست بشرا، لابد لها من بشر يفهمونها، وهؤلاء البشر هم من يصدر عن رؤية الإخوان.

الفرق، من هذا المنظور، يصبح يسيرا وفي الوسائل، بين رجل مثل أيمن الظواهري ومهدي عاكف، رغم أن الأول قد يكفر الثاني، ولكن ورغم هذا الموقف الصارم، فإن الظواهري، ببساطة، يرى أن السبيل للوصول إلى تحكيم الشريعة هو السلاح والعنف، والآخر يرى أن السبيل هو التربية والتدرج مع الجمهور ومناورة الأنظمة الحاكمة وحتى محاولة تغييرها من داخلها إن أمكن، لكن لا خلاف بينهما على أن هناك شرعية مفقودة يجب استعادتها، إما بالسنان، كما تقول القاعدة، أو باللسان كما يقول الإخوان.

كل قضية أخرى، غير قضية استعادة الشرعية، تطرحها الجماعات الأصولية من ظواهريها إلى عاكفها، ليست إلا هوامش على دفتر الحلم الأصولي، ورغم هذا كله فإنني أرجح كلام الظواهري على كلام عاكف فيما خص الأزمة المناخية وإلى أين يجب أن تتجه أصابع الاتهام.. نرجو أن يصغي الرئيس أوباما إلى كلام الظواهري ما دام الرئيس ـ الأمل، مشغولا بالإصغاء إلى الجميع في أفغانستان وباكستان وإيران، فلماذا يستثني الظواهري؟! من حق الدكتور أيمن أن يُشمَل بهذه المكرمة الأوبامية.

[email protected]