«أبو حافظ» ما بعد انزياح الأثقال عن الكاهل

TT

ها هو الرئيس بشَّار الأسد «أبو حافظ» وقد أزاح عن الكاهل أثقال جفوة مع المملكة العربية السعودية بالقمة التي استضافتها عاصمة الأمويين في الزمن الغابر، الأسديين في العقود الخمسة المتواصلة، يوم الأربعاء 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2009 وجمعت خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بالرئيس بشَّار الأسد فاستعادت العلاقة خصوصية سابقة وبدا الملك عبد الله أبا روحيا لمن هو في مكانة ابنه أي الرئيس بشَّار.. ها هو «أبو حافظ» المطمئن إلى علاقة اقتصادية متطورة مع السعودية يجد بوابات أهل الحكم في العالم مفتوحة أمامه ومن دون ما كانت عليه سابقا من تحفظات. وفي أجندة الرئيس السوري إلى جانب زيارة إلى فرنسا المرتاحة كل الارتياح إلى نتائج القمة السعودية ـ السورية وإلى التعديل المتدرج النوعي في الخطاب البشَّاري نحو لبنان الوطن السيد ولبنان الأزمة الحكومية التقليدية، زيارات أخرى يجري التحضير لها بكل الدقة التي تُبقيها في منأى عن الإخفاق. ومن الجائز الافتراض أن زيارة يقوم بها الرئيس بشَّار إلى واشنطن هي من ضمن ما يتم التشاور السوري ـ الأميركي في شأنه. وفي كل عملية رصْد من جانب الإدارة الأميركية تزداد هذه الأخيرة اقتناعا بأنه لا بد من تعديل جذري في التعامل مع سورية بصفة كونها العامل الأكثر فعالية في تحقيق التسوية المستقرة. وهذه حقيقة استوعبها الزعيم التركي رجب طيب أردوغان من خلال التلاقي مع الرئيس بشَّار حول خطوات محسوبة بدقة من بينها استباق الانضمام المتعثر لتركيا إلى الاتحاد الأوروبي المتدرج بانضمامها إلى سورية وترحيب الأخيرة بهذا الانضمام. وهذا ما يمكن استنتاجه من اتفاق فاجأ السوريين قبل الأتراك أو بالعكس وفاجأ كل أقطار الأمة أيضا، وبموجبه قرر الرئيس بشَّار والزعيم الإسلامي التركي أردوغان استحداث صدمة إيجابية وهي تلك التي تمثلت باتفاقات نوعية يرتاح لها الناس واعتبار نقاط الحدود الفاصلة وكأنها غير موجودة فيتصرف التركي كما السوري على أن بلد كل منهما هو بلد الآخر. وهي ربما تكون رسالة إلى العراق لكي يحذو الحذو التركي ـ السوري ولا ينشغل بتسوير الحدود مع سورية عوض التفهم والتفاهم معها. ومن الواضح أن الرئيس بشَّار الأسد في صدد استكمال رسم استراتيجية جديدة للولاية الرئاسية المقبلة وأن تسريعه في إزالة الحساسية في العلاقة مع السعودية جزء من هذه الاستراتيجية. وكان لافتا في هذا الصدد حرصه على أن تكون المستشارة الإعلامية والسياسية في رئاسة الجمهورية الوزيرة الدكتورة بثينة شعبان إلى جانب نائبه الأستاذ فاروق الشرع في مهمة إطلاع أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح على نتائج الزيارة التي قام بها الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى دمشق. كما كان لافتا الحرص نفسه على أن تكون المستشارة أيضا إلى جانب نائب الرئيس في المهمة المماثلة لدى السلطان قابوس. والمهمتان حصلتا في أسبوع واحد تدليلا على تقدير الظروف.

هذا الحرص ربما لكي يكون الإطلاع خاليا من أي تنظيرات وذلك لأن تجارب التنظير في الماضي تسبَّبت بارتباكات وتعقيدات وبصرف النظر عما إذا كان التنظير بغرض تعزيز الموقف العام أو أنه نوازع فكرية.

الآن بحضور المستشارة الدكتورة بثينة ستكون مهمة الإطلاع في منأى عما يشغل بال الرئيس بشَّار الذي هو على ما يجوز الافتراض في مرحلة فرْز لملفات كثيرة اختلطت فيها الرؤى، الأمر الذي تسبَّب في إرباكات لا يريدها الرئيس في استراتيجيته الجديدة التي من معالمها حالتان: الحالة اليمنية ـ الإيرانية وموضوع الشراكة السورية ـ الأوروبية. فبالنسبة إلى أزمة اليمن مع إيران نرى الرئيس بشَّار أعلن يوم الأربعاء 21 ـ 10 ـ 2009 موقفا متوازنا بالنسبة إليها بعدما كان ارتأى عدم إقحام الأزمة في المحادثات التي أجراها مع الملك عبد الله بن عبد العزيز (الأربعاء 7 ـ 10 ـ 2009)، أو فلنقل إنها كانت من ضمن المحادثات، لكنه آثر عدم الإيحاء بأن موقفه هو نتيجة رغبة من الملك فلم يأتِ على ذكرها في البيان الصحافي الصادر عن المحادثات. وفي الموقف المتوازن نلاحظ أن الرئيس السوري وفي ضوء معطيات كثيرة من بينها عزوف الرئيس اليمني عن استقبال وزير خارجية إيران منوشهر متقي الذي كان أدلى بتصريح غير موفَّق على الإطلاق قال فيه إنه سيتوسط بين نظام الحكم في اليمن والحوثيين الذين يخوضون معارك مع الجيش اليمني ثم وصول وزير الخارجية اليمنية أبو بكر القربي إلى دمشق مزوَّدا على ما يجوز الافتراض بوثائق تؤكد حدوث الدور الإيراني الفاعل في الصمود الحوثي، فضلا عن اتصالات مقرونة بالوثائق المماثلة قام القربي بحمْلها إلى الرئيس مبارك.. في الموقف السوري المتوازن نلاحظ أن الرئيس بشَّار قال في بيان رئاسي «إن سورية تدعم وحدة اليمن أرضا وشعبا بعيدا عن تدخُّل أي دولة أخرى في شؤونه الداخلية مع الاستعداد الدائم لمساعدة الشعب اليمني للخروج من أزمته الراهنة».

بطبيعة الحال لولا خصوصية تنسم بها العلاقة السورية ـ الإيرانية وتُلقي بأثقالها على الحركة السياسية للحكم السوري في أكثر من اتجاه عربي وإقليمي ودولي، لكان موقف الرئيس بشَّار من هذا الذي يحدث في اليمن أقوى بكثير. لكن الخصوصية والحرص على عدم اشتعال النار في الصدر الإيراني المكتوي منذ أسابيع بصدمات أصابت مهابة الحكم في الصميم، جعلت الموقف على النحو الذي أوردناه والذي هو قابل للتطوير، خصوصا أن حديث انفصال الجنوب بتشجيع من إيران يجعل الرئيس بشَّار يستحضر البعد الوحدوي في العقيدة التي تُحكَم بها سورية. لكن على رغم ذلك فإن عبارة «بعيدا عن تدخُّل أي دولة أخرى بشؤونه الداخلية» هي منتصف الطريق بين الموقف الذي لا يلغي إغفال تسمية إيران بالاسم أنها ليست هي المقصودة بـ«أي دولة أخرى».

هذا بالنسبة إلى الحال اليمنية. أما بالنسبة إلى الموضوع الأوروبي فإنه كان مستهجَنا موقف وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير الذي ألغى زيارة مقررة إلى دمشق ضمن جولة تشمل أيضا بيروت وتل أبيب. والذريعة هي ازدحام برنامج الوزير مع أن حقيقة الأمر هي أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو رفض تحديد موعد للقاء كوشنير احتجاجا على موقف فرنسا من تقرير غولدستون الذي يثبِّت جرائم حرب ارتكبتْها إسرائيل ضد الغزَّاويين، وإزاء ذلك ولكي لا يتحدى نتنياهو بأنه نكاية به يزور دمشق وبيروت العاصمتين اللتين تتحديان ذئاب حكومة إسرائيل وثعالبها، فإنه سحب قلمه وشطب من برنامج الجولة دمشق مبقيا على زيارة بيروت كي لا يشعر بخذلان قد يحرجه كثيرا في حال أخفق في بيروت في تسريع عملية تذليل عقبات تشكيل الحكومة.

أما إذا كان إلغاء زيارة دمشق مرتبطا بإعلان الحكومة السورية عزوفها عن توقيع اتفاق الشراكة مع أوروبا المحدَّد أصلا موعده يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2009، فإن كوشنير يفتقد في ذلك إلى الكياسة المطلوبة. ذلك أن الحكومة السورية آثرت التريث في التوقيع لأن الاستراتيجية الجديدة للتحرك السياسي للرئيس بشَّار وعلى نحو ما أوردْنا في سطور سابقة، تستوجب التأمل العميق في مواقف وارتباطات حفلت بها السنوات الماضية ومن بينها اتفاق الشراكة مع أوروبا الذي يحتاج في نظر الرئيس بشَّار على ما يجوز الافتراض إلى الوقوف على عوائد دول مثل مصر وتونس سبق أن وقَّعت على اتفاق الشراكة، مع ملاحظة أن الاتفاق مع سورية كان سيوقَّع قبل خمس سنوات، لكن الاتحاد الأوروبي ولحسابات سياسية جمَّد التوقيع أربع سنوات ولذا فمن حق سورية أن تتريث بضعة أسابيع مقابل تجميد أوروبي استغرق بضع سنوات.. إلاَّ إذا تمت زيارة الرئيس بشَّار إلى فرنسا ضمن الأصول التي تجعله يتوِّج هذه الزيارة بتوقيع اتفاق الشراكة. لكن سيبقى من باب حُسْن الظن من جانبنا التمني بأن يكون إلغاء كوشنير زيارة تل أبيب ليس لأن نتنياهو لم يحدد موعدا لاستقباله وإنما لأنه (أي كوشنير) صاحب ضمير مقتنع كل الاقتناع بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الغزَّاويين وأن إلغاءه الزيارة يندرج ضمن حيثيات إلغاء وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو زيارة إلى إسرائيل قبل أسابيع بعدما رفضت السلطات الإسرائيلية تسهيل عبوره من تل أبيب إلى غزة المعتدى عليها لأن «حماس» انفردت بها ولأن الانفراد في ضوء تحديد الرئيس محمود عباس 24 يناير (كانون الثاني) 2010 موعدا لانتخابات رئاسية وبرلمانية قد يجعل الانفراد انفصالا لا قدَّر الله. والله أعلم.