كيسنجر: الاسم الجديد في قائمة العدالة

TT

كان محقا المفكر الانجليزي (كليفورد) عندما قال منذ زمن ليس بالقريب ان لكل انسان ذاتين فردية واجتماعية (شمولية ـ النفس)، ولحظة نشوء الصراع بين هاتين الذاتين، تكون ولادة (الضمير)، فيتحقق الخير الاجتماعي (الاخلاقي)، وهو ما يعزز قدرة الجماعة وبقاء الانسان. اذن هي الاخلاق التي يكمن فيها السر وبما السحر الذي يجعل من المستحيل ممكنا وماثلا وشاخصا للعيان. وهذه الاخلاق ايضا التي رأى جان جاك روسو (صاحب العقد الاجتماعي) فيها عمليتي التلاقح والافراز.. اي تلاقح العقل (السياسة) والضمير (الاخلاق) وبالتالي الافراز، اي انتاج القانون (العقد)...

ولذلك فالسلوك الاخلاقي هو الذي يحفظ نمو الحياة وفق تعبيرات المفكر هيربرت سبنسر، وهو ما يحقق في نهاية الامر تغذية التعايش الانساني واسدال ستار العدالة على قاطني هذا الكوكب.

ولعل ما يوّلد هذه العدالة هو رغبة الانسان ذاته، وهي بمثابة الدافع للرقي والسمو، والتي تعني اقل ما تعني تحقق الفضيلة والسعادة، ولذلك فان كل شيء في الوجود يتم بمقتضى قانون، لا سيما في مسألة تحليل الفعل الانساني (الذي يصدر عادة من العقل) الذي شرّحه المفكر (كانط) في مذهبه المثالي، حيث ارتبط معنى القانون الخلقي بمعنى الارادة الصالحة (التي يفرضها الواجب)، والتي بها يتحقق الخير الاجتماعي (الاخلاقي). على ان فكرة العدالة، ومنذ المجتمعات البدائية القديمة والى يومنا هذا، لم تزل تشكل هاجسا مسيطرا لم يلبث ان التصق بالواقع الاجتماعي. وسواء اخذ مظهرها (اي العدالة) الخارجي استخدام القوة (الغريزي) آنذاك، او الحكم القضائي (الحضاري) في وقتنا الراهن، فان مضمونها النسبي ما فتئ يوثر في دواخل الانسان، وفيه يكمن ذلك الشعور الذي يبعث على الارتياح، حيث قناعة الضمير وراحة الذات. بيد ان تحقق العدالة لا بد له من ارضية يستند اليها لتدفعه تجاه المراد او محاولة الاقتراب منه على اقل تقدير. وهذه الارضية يمكن تسميتها بـ(الارادة) التي يعول عليها كثيرا في تحقيق مفهوم العدالة، وسواء كانت الارادة فردية ام جماعية، ليس مهما، بقدر ما ان الاهتمام ينصب على نتائج تلك الارادة وانعكاساتها وافرازاتها.

الهاجس الآيديولوجي والأخلاق والحقيقة ان من يتأمل التحولات والمتغيرات الآنية على المسرح الدولي، يلمح ان ثمة شعارات ومعاهدات واتفاقات لما اصطلح على تسميته (حقوق الانسان)، والتي لم تلبث ان اخذت مع مرور الوقت مكانة فسيحة في اجندة الحكومات التي لم تعد قادرة على تجاهل هذه المطالب، وصارت المنظمات المستقلة (لحقوق الانسان وغيرها)، تمارس ضغوطا على سياسات هذه الدول، بل تجاوز الحال الى حد المطالبة بمعاقبة تلك الدول او زعمائها ممن كرسوا معاني التسلط والاستبداد والمنفعة الوظيفية.

على ان الفضل ـ بالطبع ـ يعود الى اولئك الناشطين (اصحاب الارادة) الذين لم يتوانوا في الاستفادة من هذه التحولات، وبالتالي تكريس مفاهيم التعددية وحقوق الانسان. فهؤلاء لم يعد الهاجس الايديولوجي مهيمنا عليهم بقدر ما ان الغاية التي يتوقون اليها تنصب في احترام انسانية الانسان واعطائه حقوقه المشروعة، ومعاقبة او احالة للقضاء المستقل (العدالة في مفهومها الحضاري)، كل من ارتكب جرما بحق الآخرين من دون مسوغ قانوني يعطي له هذا الحق. وهكذا باتت مفاهيم حقوق الانسان ومطاردة الخارجين عن العدالة او من انتهكوا هذه الحقوق، القضية الاهم المتداولة في الاعلام بألوانه المتعددة فضلا عن الملتقيات والمنتديات ناهيك من الشعوب التي ترنو الى مناخ جديد يؤسس لمبادئ حقوق الانسان عبر قنوات المجتمع المدني.

ولعل من يعود الى التاريخ يجد ان اعداء الحرية وحقوق النسان هم في الاساس زعماء ومسؤولون استبدوا وسيطروا واشبعوا رغباتهم ايما اشباع، وصارت السلطة المطلقة، كمفهوم واسلوب لم يتغير منذ ايام الفراعنة، وحتى يومنا هذا تستخدم في عالمنا، لا سيما في العالم الذي يتشدق بالديمقراطية! اذن، السلطوية، وما ادراك ما السلطوية، هي العائق الذي يقف امام حرية الشعوب. ورغم ان العالم في تحول مطرد، فضلا عن افرازات العولمة، الا ان اغلب حكوماتنا العربية لم تشعر بعد بخطورة الموقف، وان كانت ستعيشه قريبا، فحماية حقوق الانسان تشكل في وقتنا الراهن مصدرا جديدا ورئيسيا لشرعية اي نظام، فبعد ان كانت الدول تفعل ما تشاء داخل اختصاصها القانوني والمكاني على اعتبار ان مبدأ السيادة الوطنية يعطي لها هذا الحق، وفي هذا بعض الصحة، الا ان المفهوم العولمي يفرض على الدول والى حد كبير، التقيد بالمبادئ والقوانين حتى في نطاق مجالها الوطني، ولعل من يطلع على التقارير الدولية يجد فيها كثيرا من الانتقادات لاغلب الحكومات التي تنتهك حقوق الانسان وتمارس ضد مواطنيها اساليب القمع والتعذيب والقتل والسجن وتصادر حرياتهم في التعبير. هذا التحول في مفهوم الدولة وطبيعة واجباتها، الذي استمد قوته ـ بالطبع ـ من معايير حماية حقوق الانسان، جعل من الرقابة الدولية ـ ان جاز التعبير ـ امرا مطلوبا بل وملحا لا سيما انه قد اعطى لمفهوم النظام السياسي معيارا جديدا تمثل في ان من لا يهتم بهذه الحقوق لا يجدر به ان يكون حاكما. ولم يقف الامر عند هذا الحد بل تجاوزه الى التطبيق، فالانظمة الديكتاتورية وحكامها بطبيعة الحال، يتعرضون في عالمنا اليوم لاعتقالات ومحاكمات بتهم ارتكاب جرائم حرب واعمال فساد وانتهاكات حقوق الانسان.

وها هي محكمة لاهاي تستمع الى مرافعات في غاية الاثارة حول ما اقترفه ميلوسيفيتش (الرئيس) من جرائم ابادة وجرائم ضد الانسانية، والمتهم يجلس في قفص الاتهام يتأمل حالته المزرية التي تــبعث على الشفقة.

كيسنجر.. هل هو مجرم حرب؟

ولا يفوتنا ان نستذكر ديكتاتورا آخر هو التشيلي بينوشيه الذي احتجز في لندن لمدة عام تحت الاقامة الجبرية، وكانت ممكنة محاكمته في بلده لولا سوء حالته الصحية.

وفي القريب سوف نرى شارون وربما صدام حسين، يحاكمان في بلجيكا التي يجيز نظامها القضائي قبول مثل هذه الدعاوى طالما وجدت ادلة او قرائن بحق المتهم.

على ان المثير فعلا هو ظهور اسم وزير الخارجية الامريكي السابق هنري كيسنجر كمجرم حرب، والمطالبة بمحاكمته عما اقترفه من جرائم ضد الانسانية، كما يطالب البعض بالكشف عن الوثائق التي يحتفظ بها من الفترة التي عمل فيها كمستشار للامن القومي في ادارة الرئيس نيكسون، فضلا عن المكالمات الهاتفية التي اجراها عندما كان وزيرا للخارجية في حكومة جيرالد فورد في الفترة ما بين 1973 و1977. وعند طرح هذه القضية وهذا الاسم المثير للجدل، لا بد ان تشعر ان ثمة اسبابا تقف وراء هذا التوقيت وربما كانت لعبة سياسية او مصنوعة من قبل اعداء النجاح، فما يقرأ في الصحف، ليس بالضرورة يستند الى الحقيقة. فالدعاوى التي ظهرت في فرنسا والارجنتين ضد كيسنجر، خلتها من الامور التي تبحث عن الشهرة والابتزاز ومسايرة نغمة (ملاحقة الزعماء والمشاهير) باسم حقوق الانسان، الى ان وقع نظري على كتاب نزل الى الاسواق مؤخرا باسم «محاكمة هنري كينسجر» The Trial of Henry Kissinger للمؤلف كريستوفر هيستشنس. مائة وتسع وخمسون صفحة من الحجم المتوسط، كانت في اعتقادي كافية ان تدين الرجل امامي على الاقل، فالجهد المبذول في اعداد الكتاب والشهادات والادلة بالاضافة الى الملاحق والوثائق التي كشفت لاول مرة، اذا ما علمنا ان القانون الامريكي يجيز الكشف عن الوثائق السرية بعد مرور 30 عاما عليها، تخلق لك كثيرا من الانفعالات، ولا غرابة في ان يقشعر البدن لتلك القصص والمآسي التي كان خلفها الدموي كينسجر، ونذكر منها القتل الجماعي في بنغلاديش، والاغتيالات في تشيلي ابان حكم بينوشيه، وتدخله الشخصي في اغتيال رئيس قبرص، ودوره الدموي في تيمور الشرقية، وتورطه في اختطاف الصحافي الذي يعيش في واشنطن.. وكل ما ذكر آنفا غيض من فيض لرجل قوي لعب دورا هاما وخطيرا في حقبة تاريخية لا يمكن نسيانها، ويبدو ان الثقة التي اعطيت لكيسنجر جعلته يشعر ان بامكانه ان يحول المستحيل الى كائن، ولا ثمة شيء ـ حسب اعتقاده ـ يمكن ان يقف عثرة في طريقه.

هذا كتاب يفضح كيسنجر بل يعري السياسة الامريكية التي ما فتئت تتشدق بالديمقراطية ولم نكن نعلم انها تلعب بالبيضة والحجر، وباجادة لافتة. نعم، كان لاعبها ماهرا بلا شك، لكن المهارة لا تعني بأي حال من الاحوال ان يفلت المجرم من العدالة. وكما يقال الايام حبلى.. وانا لمنتظرون.