الصيف الموريتاني

TT

دعا الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد احمد الطايع مواطنيه الى قضاء عطلة الصيف في بلادهم بدل الخارج، واعتبر ان النزوح الى الشواطئ الاوروبية او المتوسطية المجاورة تبديد للثروة المحلية، منبها الى ما تحتويه البلاد من امكانات سياحية هائلة ومتنوعة.

ويبدو ان اوامر صارمة صدرت لكبار الموظفين الرسميين في هذا الاتجاه، وكذلك لرجال الاعمال، لقيت تجاوبا واسعا في بلاد كانت على رغم صعوبة اوضاعها الاقتصادية تنسلخ من سكانها، هربا من حرارة الصيف ورطوبة الخريف الممطر.

وتتباين مصائف الموريتانيين بحسب دخولهم وميولهم، فيقصد اغنياؤهم باريس والشواطئ الفرنسية المتوسطية (الكوت دازير)، ويتواجد اغلبهم في جزر الكناري القريبة التي تتحول في الصيف الى مستوطنة موريتانية كبيرة، تكثر فيها الملاحف النسوية والدراريع الرجالية (الاثواب المحلية الموريتانية) وتمتد فيها السهرات الجماعية الغنائية على الطريقة التقليدية المألوفة، بينما تستقبل المدن المغربية فلولا اخرى من المصطافين الموريتانيين.

وسياحة الموريتانيين هي في الغالب من نوع السياحة العائلية، الجامعة بين الاصطياف واللقاءات الاسرية الحميمة، وفرص التسوق، وتحافظ في الغالب على الاطار المحلي المعهود في بلاد الغربة.

واذا كان الموريتانيون يقبلون على العطلات الخارجية، فليس ذلك عائدا الى خلو بلادهم من المظاهر الطبيعية الجميلة ومن الشواطئ الهادئة المريحة، وانما الى غياب تقاليد وثقافة سياحية محلية، وانعدام بنية تحتية ملائمة، اذ لا تزال المنشآت الفندقية محدودة وهشة، على رغم التوسع المطرد والمتسارع الذي عرفه هذا القطاع في السنوات الاخيرة، بفضل تزايد نسبة السياحة الخارجية القادمة من اوروبا على الاخص.

وما يستقطب السياح الاوروبيون اساسا هو السياحة الثقافية، التي تتوفر فيها موريتانيا على امكانات واسعة، مثل المدن الاثرية والتاريخية القديمة، والمكتبات الاهلية الزاخرة بالمخطوطات، ونمط العمران الاصلي الجامع بين الفنين المغربي ـ الاندلسي والافريقي ـ السوداني في صياغة تأليفية جميلة.

وهكذا شهدت مدن شنقيط ووادان وولاته واطار في السنوات الاخيرة نشاطا سياحيا، لم يفتأ يتعزز ويتوطد، على الرغم ان هذه المدن التاريخية العريقة (باستثناء اطار) كانت قد بدأت في الانهيار التام بفعل زحف الرمال وغياب المنشآت المدنية الحديثة.

ويتعلق الامر بطبيعة الحال بنشاط سياحي خارجي يشد الزوار الاجانب، ولا يستثير اهتمام المواطنين الموريتانيين الذين يتهافتون على الموسم الصيفي المسمى القيطنة، قبل ان ينتقلوا في اشهر الخريف الى المنتجعات البدوية في الصحراء المترامية الاطراف.

اما موسم القيطنة فيمتد من بداية شهر حزيران (يونيو) الى نهاية شهر تموز (يوليو)، وهو عبارة عن فترة استجمام في واحات النخيل بشمال ووسط البلاد، وله تقاليده الغذائية والاجتماعية، وطقوسه العريقة، وتعزى له فضائل وميزات طيبة كثيرة.

اما الموسم الخريفي فيمتد من منتصف شهر تموز (يوليو) الى نهاية شهر ايلول (سبتمبر)، ويتركز في المضارب البدوية شرق البلاد وجنوبها، حيث تنتشر قطعان المواشي، حتى ولو كانت طبيعة البيئة البدوية تغيرت في الجوهر والصميم، واصبحت من لواحق المدينة، ولذا فان ملاك المواشي هم في الغالب من كبار رجال الاعمال وموظفي الدولة، الذين يرون اقتناءها من متطلبات الوجاهة الاجتماعية، من دون الاعتناء بمردوديتها الاقتصادية.

وللقرى الريفية الصغيرة المنتشرة على نطاق واسع وفوضوي في عموم البلاد سحرها واغراؤها، وتنتظم هذه القرى بحسب منطق الانتماء القبلي، ومن ثم تؤدي ادوارا سياسية هامة على الصعيد الوطني، من حيث نظام التمثيل في المواقع الانتخابية والادارية، في مقابل المدن الكبرى العديمة الشخصية واللون.

ولبعض هذه القرى مكانة ثقافية ودينية عريقة، باحتوائها لبقايا المؤسسات المحظرية التقليدية، اي المدارس الاهلية المعروفة في موريتانيا.

ومن الملاحظ في السنوات الاخيرة ان الروح عادت لهذه المؤسسات التي كانت تعرضت للانتكاسة والتراجع في عقود الاستقلال الاولى، وهكذا غدت المحاظر الريفية تستقبل على نطاق واسع الطلبة المتفرغين من داخل البلاد وخارجها. وفي الصيف على الخصوص يرتادها تلامذة وطلبة المدارس والجامعات، الذين يحرصون في اشهر العطلة على تلقي تكوين ديني مواز للنظام التربوي الحديث، وفي سبيل هذا التكوين يتحملون قساوة المناخ، وشظف العيش وبساطته الشديدة.

اما العاصمة نواكشوط والمدن الكبرى الاخرى فتخلو من السكان، وان كانت هذه الايام تعج على غير عادتها بالحيوية والنشاط تأهبا لاستقبال الملك المغربي محمد السادس الذي سيزور موريتانيا مطلع شهر ايلول (سبتمبر) القادم، وتعتبر هذه الزيارة اول زيارة رسمية لملك مغربي الى موريتانيا منذ استقلالها عام 1960، وستكرس علاقة الشراكة الجديدة المتميزة بين البلدين.

وبالاضافة الى هذه الزيارة المرتقبة، ستختصر الاستعدادت الجارية للاستحقاقات الانتخابية القادمة العطلة الصيفية لهذه السنة، ويتعلق الامر بالانتخابات البرلمانية والبلدية التي ستجرى مطلع شهر تشرين الاول (اكتوبر) القادم، بمشاركة مختلف القوى السياسية، بما فيها التشكيلات المعارضة التي دأبت على مقاطعة المناسبات الانتخابية باعتبار عدم توفر الضمانات الكافية لنزاهتها.

ولا شك ان هذه الاستحقاقات ستعكس شكل التركيبة السياسية الجديدة التي مستها تغيرات نوعية، بعد جملة من الاحداث من بينها حل حزب المعارضة الرئيسي (اتحاد القوى الديمقراطية)، وبروز العديد من التشكيلات الاخرى التي حصلت على الترخيص القانوني مؤخرا.

وهكذا تحت الايقاع الخريفي الممطر، يتواصل الصيف الموريتاني الحار الذي يبدو مزدحما بالتحولات والاحداث.