هل أتاك حديث المصالحة؟!

TT

فشلت المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية التي كانت تحاول القاهرة إجراءها طوال الشهور الماضية، بل إنه يمكن القول إن المحاولة ممتدة إلى ما قبل «حرب غزة» عندما بذلت مصر جهودا مضنية لإجراء مصالحة كان ممكنا أن تمنع الحرب من الوقوع، وتوحد الفلسطينيين، وربما تعطيهم أملا في المستقبل. على أي الأحوال فإن مصالحة 2009 انضمت إلى سابقتها في 2008، ومن الممكن أن يضم هذا وذاك إلى المصالحة السعودية التي كانت أسعد حظا بالنجاح وإنتاج إعلان مكة، ولكنها كانت أتعس حالا عندما تم نقض الاتفاق قبل أن يجف الحبر الذي كتب به الإعلان، وقبل أن تكف الدموع التي سالت عند أستار الكعبة.

وفي العادة ورغم كل أشكال الفشل، فإن السعي إلى المصالحة الفلسطينية لا ينتهي أبدا، ويعلم الفلسطينيون أن بوسعهم الخصام للأبد لأن هناك دوما من سيرق لحالهم، ولا يرى حلا لمعضلتهم بدون الوحدة الوطنية الفلسطينية، ومن ثم يسعى إلى مصالحة من نوع جديد، أو هكذا يتصور، أن اختلاف العاصمة والفنادق ووجوه الوسطاء سوف يجعل النتيجة مختلفة. والمدهش في القديم والجديد أن المصالحة تتحول أحيانا إلى هدف في حد ذاتها تنتهي عنده كل خطوات النضال الوطني الفلسطيني؛ وأحيانا أخرى فإنها تصبح «بيزنس» أو مصدرا للربح والحصول على المكاسب شخصية كانت أو سياسية. وما هو أكثر دعوة للدهشة هو أنه مع مضي الزمن في «جهود المصالحة» تتصور جماعات فلسطينية أن السماح بالوساطة من أجل المصالحة هو مكافأة يتم توزيعها مغانم على الدول والجماعات وحتى الأفراد للحصول على مزايا سياسية واستراتيجية. وحينما تستمع إلى بعض من الفلسطينيين وتعليقاتهم حول الجهود الجارية ومدى عبثيتها، فإن تعليقا واحدا سوف يكون لافتا للنظر وهو أن القضية الفلسطينية هي «الرقم الصعب» في معادلة الشرق الأوسط، وطالما ـ هكذا ـ كان الرقم صعبا، فلا بد أن هناك من سيتطوع لكي يقوم بجهود جديدة للمصالحة.

وسط ذلك كله تضيع «القضية» في جوهرها، وهناك الكثير من الراديكاليين الفلسطينيين والعرب الذين يعتبرون كل جهد دبلوماسي أو سياسي لحل القضية نوعا من «التصفية» للقضية، ولكن مع غياب كل هذه الجهود فإن القضية يجري تصفيتها كل يوم بجهود إسرائيلية عندما يجري تمزيق القدس، ونشر المستوطنات في الضفة الغربية. ولكن الأخطر هو أنه يجري تصفية القضية بجهود فلسطينية بدأت مع عملية استئصال قطاع غزة من الجسد الفلسطيني وعزله في محمية خاصة تسيطر عليها جماعة حماس السياسية والعسكرية. ومع تحقيق الانفصال بالطريقة التي جرى بها، وما أدى إليه من أسر قرابة المليون والنصف من الفلسطينيين باتت حياتهم رهينة للصلف الإسرائيلي والحكم الأيديولوجي من جانب حماس، فإن القضية الفلسطينية تفقد جوهرها وهو وجود «شعب» يريد التحرر من الاحتلال الإسرائيلي من ناحية وإقامة الدولة الفلسطينية من ناحية أخرى.

والمشكلة بالنسبة للعالم العربي أنه لا يرى في القضية إلا الصلف والاحتلال الإسرائيلي، ولكن جانبها الآخر في مسئولية حماس، فمع ما يجرى للقضية فإنها عادة ما تسقط من الحديث العربي، باعتبار أن الحديث عن حماس سوف يكون مفيدا للخصم الإسرائيلي. ولكن ذلك يتم فقط في الإعلام العربي، واللقاءات العربية، حيث لا يريد أحد أن يخدش الوحدة العربية حول القضية الفلسطينية، بينما في المؤتمرات الدولية واللقاءات مع الزائرين من الدول الأخرى، فإن الكل يعلم أنه لا سبيل إلى استعادة الوحدة الفلسطينية حتى ولو اتحد كل العرب أو تفرقوا سببا لذلك. وأمام هذا المأزق الحاد بين الداخل والخارج لا يبقى إلا العمل من أجل مصالحة جديدة تكون مفيدة لكل الأطراف. فالطرف الفلسطيني يحبها لأنها فضلا عن فوائد مادية تكون فرصة جديدة في الإعلام وفي القاعات المغلقة لإدانة الطرف الفلسطيني الآخر وتبيان عمالته الظاهرة أو الكامنة للدولة الصهيونية. والأطراف العربية تحبها أيضا لأنها تشغل وقت فراغ غياب المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية، كما أنها تصلح لمناورات عربية صغيرة حيث لا يوجد ما يسعد طرفا عربيا قدر فشل طرف عربي آخر في جهود المصالحة. وإسرائيل أيضا تحبها كثيرا، فعند جهود المصالحة ينشغل كل طرف فلسطيني بنفسه، ولا بأس أحيانا من نشر الغسيل الفلسطيني غير النظيف، وبالوسع دائما، خاصة عند الجلوس مع أطراف دولية أخرى، الإشارة إلى الحال الفلسطينية والتأكيد على أنه إذا كان الفلسطينيون يفعلون ذلك مع بعضهم البعض فكيف يفعلون مع إسرائيل. وفي كل الأحوال تضيف إسرائيل إلى رصيدها مددا إضافيا من الانتظار الذي تستغله لبناء الجديد من المستوطنات، وكسب الرأي العالمي، والبناء التكنولوجي والتنموي للدولة الإسرائيلية. والعالم أيضا يستفيد من جهود المصالحة، ففي انتظار نتائجها راحة للضمير الذي يؤرقه أحيانا تقرير مثل تقرير جولدستون أو ما يماثله من تقارير. والخلاصة أن «عملية المصالحة» مثل «عملية السلام» قد تكون أكثر أهمية من المصالحة نفسها، أو السلام نفسه.

فهل ننتظر الآن جولة جديدة للمصالحة سواء كانت في القاهرة أو تتقدم دولة أخرى لكي تحصل على «شرف» تحقيق مصالحة لا تحدث أبدا، وإذا حصلت فإنها تنفجر بعدها بفترة قصيرة؟ أم نبحث عن طريق آخر للخلاص من هذه المعضلة؟ الواضح أن البحث عن طريق آخر للخلاص من المعضلة هو المنهج السائد في المنطقة، والطريق الآخر هو البعد عن القضية الفلسطينية إلى آخر مدى. وأبرز الأمثلة على ذلك ما تقوم به سوريا عندما تعايشت مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية المحتلة، وأمسكت بلجام حركة حماس بعد أن أعطتها مكانا في دمشق لكي تتحكم في احتمالات المصالحة التي يقوم بها آخرون، ومن ثم تحركت في اتجاه تركيا التي كانت منذ سنوات قليلة على وشك الهجوم العسكري عليها. الآن صارت تركيا حليفة وصديقة جرى التنازل لها عن لواء الأسكندرونة بكرم شديد، ومن بعد التنازل تدفقت العلاقات الاقتصادية والتجارية، وجرى التعاون الأمني ضد أشكال مختلفة من الإرهابيين، ومن زار دمشق مؤخرا سوف يقول إن الأتراك مع البضائع التركية قد صارا العلامة السياسية البارزة في عاصمة الأمويين. لقد عادت تركيا مرة أخرى إلى سوريا بطريقة تلائم القرن الواحد والعشرين، ومن الممكن تسميتها العثمانية الجديدة، أو تسمية أخرى، فلا فرق في الحقيقة حول أن الزمان قد دار دورة كاملة، وعادت الأيام ـ طيبة أو غير طيبة ـ إلى سيرتها الأولى.

سيناريو آخر ما زال ممكنا، وطالما أنه لأسباب تاريخية ودينية وقومية وحتى وطنية لا يمكن تحقيق المصالحة، أو ترك القضية الفلسطينية، فإن الحل هو حسم الموضوع والوقوف إلى جانب الطرف الفلسطيني القابل بالمصالحة فعليا وهو السلطة الوطنية الفلسطينية ومساعدتها على إجراء الانتخابات الفلسطينية في موعدها. التحفظ على ذلك بأنه يكرس الانقسام الفلسطيني ويعطيه الشرعية لا يرى الواقع وهو أن الانقسام واقع بالفعل، وأن حماس إما أنها لا تستطيع أو لا ترغب لا في المصالحة ولا في تغيير الأوضاع الواقعة الآن في غزة بعد أن تحولت بالفعل إلى إمارة صغيرة تسير أمورها على الطريقة الطالبانية. إن مثل هذه الحالة لا يوجد علاج لها في المستقبل القريب، ولو أن الجهود المصرية والسعودية تركزت على دعم الشرعية الفلسطينية لتم عزل حماس، وإعطاء الشعب الفلسطيني تقديرا صحيحا لمن يريد الوحدة الفلسطينية ومن يسعى إلى تقسيم الشعب الفلسطيني، ومن بعد ذلك إعطاء الفلسطينيين فرصة للتسوية والسلام من خلال جهود دولية تجد طرفا فلسطينيا يمكن التعامل معه.

وبالطبع، وذلك محتمل، هناك السيناريو المتمثل في العودة إلى مائدة المصالحة مرة أخرى في القاهرة أو مكة، لكن هذه المرة قد يراد تأمين موقف دمشق من المسألة كلها حتى تكون المحاولة جادة أو أكثر جدية مما سبق. وإذا كانت سوريا قد عبرت الطريق نحو دولة من أهم أركان حلف الأطلنطي، والمياه تعود إلى مجاريها بين دمشق وواشنطن فربما يمكن استمالتها وهي تتوجه شمالا أن تترك الجنوب لحاله، والفلسطينيون لحالهم يتصالحون ويعقدون انتخابات تحدد من يقودهم في المرحلة المقبلة. تعالوا ننتظر ونرى، ألم ننتظر عقودا طويلة من قبل؟!