البداية: روايات الجيب!

TT

ولم نسأل أنفسنا في ذلك الوقت من نحن. نساوي كم. ومن قال إننا لنا صفات خاصة تختلف عن بقية التلامذة. لم نسأل أنفسنا هذا السؤال.. فمثل هذا السؤال يحرجنا ويخجلنا. فأنا مثلا أول الفصل وأول المدرسة. إيه يعني؟ صحيح لم أعرف لهذا أي معنى. وليس لنا حقوق من أي نوع. أنا لست الذي ينام في غرفة وحده ويذاكر في غرفة وحده. وفي بيته دفء وروائح غريبة. هذه الروائح لم أعرفها إلا عندما ذهبت إلى الجامعة. وسكنت في حي الزمالك.. وكنت أمر على العمارات الكبيرة وأقف عند أبوابها أشم هذه الروائح الغريبة. وكنت أعرف العمارات بروائحها..

وحاولت أن أفسر معنى هذا السلوك الذي يجعلني أمر على عشرات العمارات، دون أن أفهم ودون أن أعرف إن كان لهذا معنى أو هدف. وتذكرت سلوكا آخر غريبا. ولكني طاوعت نفسي لعلي أهتدي إلى شيء. قلت أذهب إلى حديقة الحيوان في زمن التزاوج. وأطيل الوقوف عند الأسود وعند السلاحف والأفاعي. وأنتظر بالساعات حتى يفرغ الأسد واللبوءة من اللعب والدلال. وتنتهي العملية الجنسية بين الأسد واللبوءة كالتي بين الديك والدجاجة وذكر البط والبطة.. إنها لا تستغرق دقيقة أو دقيقتين. وأعود إلى الكتب لعلي أجد شيئا مفيدا. أو لعلي أنتقل من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان. وهل هناك فرق. لا فرق؛ فكل الحيوانات أسلوبها واحد. وهي جميعا تشبه الفلاح الذي يحرث الأرض ثم يلقي بالبذور في تجويف الأرض الذي حرثه بالمحراث الذي يجره الثور أو الحصان أو الحمار. وظلت ملاحظاتي عند هذه الحيوانات ولم أعرف كيف أستفيد علميا. أو لعلي أصل إلى نظرية. وادعيت أنني اهتديت إلى نظرية. وبعد ذلك اكتشفت أنها ملاحظات سطحية لا ترقى إلى مستوى التنظير ولكنها تكشف عن مراهقة.. أي محاولة التسلل والتنصت على عالم الحيوان. ومزقت هذه الأوراق أيضا. وكنت أتمنى ألا أفعل. وقد خجلت من نفسي فلم أتحدث عنها لأحد.. لقد حاولت تنشيط حاسة الشم كما قمت بتنشيط حاسة البصر. وبس. وكلها أنواع من حب الاستطلاع عند الأطفال..

في ذلك الوقت من أربعينات القرن الماضي. لم تكن الكتب في أيدينا. كانت بعيدة. والكتب التي في أيدينا (مترجمة). ولم أعرف معنى كلمة مترجمة ولا الفرق بينها وبين (تعريب) أو (عرض) أو تقديم. وكان يتولى هذه المهمة الباهرة وأظن لا يذكره المثقفون حتى من أبناء جيلي. إنه الأستاذ عمر عبد العزيز أمين..

فقد قدم معظم روايات دستويفسكي وجوجول وجوركي وتولستوي وهوجو وروايات (أرسين لوبين) وفى ذلك الوقت لم ير أحد منا أصول هذه الكتب ولا يعرف حتى الفائدة من قراءة كتب امتلأت بأسماء أجنبية كثيرة ثقيلة على الأذن وعلى العين.. فنحن لا نعرف كيف نطقها ولا كيف شكلها..

ولا أدعي أنني استوعبت ما قرأت. ولكني لا أقاوم قراءة أي كتاب ابتداء من (روايات الجيب) ومجلة ضخمة تصدرها شركات الأسمدة الكيماوية التي توزعها احدى الشركات الألمانية.