أكّارو العصر

TT

نشرت «الهيرالد تريبيون» قبل يومين صورة وقصة ساعي البريد النيويوركي الذي يعيش بقلب اصطناعي منذ شهرين. وسوف يبقى الرجل بقلب لا دقة له الى ان تمكّنه حاله الصحية من تحمل قلب مزروع، ينبض كالمعتاد بدل ان يضخ الدماء على طريقة «اليويو». في الثلاثينات تخيل الدوس هاكسلي في روايته «عالم شجاع جديد»، عالماً يولد فيه الاطفال بالانابيب ويمارس الاستنساخ، وتنشر فيه العولمة المادية والانظمة الشمولية. لقد كانت تلك اول رواية خيالية حول الجسم البشري، بعكس زميله الفرنسي جول فيرن الذي حمل خياله العلمي في القرن التاسع عشر الى الغواصات في اعماق البحر او الى المناطيد حول العالم.

منذ ان سمح الرئيس الاميركي جورج بوش اوائل هذا الشهر باستنساخ الاعضاء رسمياً دخل العالم مرحلة جديدة لا يدري احد الى اين ستوصلنا: هل سنبقى في مرحلة «الزرع» التي ارتادها الجنوب افريقي كريستيان بارنارد في اواخر الستينات وغيرت معالم الطب الحديث، ام سنبلغ عالماً مجنوناً بلا قلب، كما في رواية هاكسلي. فعندما تفتح الولايات المتحدة الباب او المختبرات امام شيء ما، لا تعود هناك حدود لشيء: ألم تبدأ هي عملية الدخول الى العالم النووي الذي نعيش فوقه اليوم، بقنبلة صغيرة تحملها طائرة، في حين اصبح ممكنا الآن قصف القارات بالصواريخ النووية ببضعة ازرار؟

يد مقطوعة يعاد زرعها في فرنسا. وقلب متهالك يستبدل بقلب بلاستيكي في نيويورك على شكل خراطيم متداخلة، ونعجة تستنسخ من نعجة في اسكوتلندا. ويبدو كل شيء كأنه امر عادي ألفته الصحف ولم تعد ترى فيه اثارة لقرائها. تذكرني هذه اللوحة السوريالية بالأكّارين في احياء بيروت القديمة. ففي كل حي اكّار ماهر يقوم بكل شيء: يقص الشعر، ويصلح الحنفيات المسدودة، ويعيد الاقدام المكسورة في الكراسي الى امكنتها، وينفخ دواليب السيارات النافسة، والعلم الحديث عالم مليء بالاكّارين، كأنما الجسم البشري خزانة عتيقة او سيارة قديمة. قطعة من هنا وقطعة من هناك. تبدأ رواية الدوس هاكسلي بزيارة الى مخزن «لاطفال الانابيب». وربما كان سهلا على كاتب درس الطب، ان يتخيل في حقله الشيء الذي لا يمكن ان يحدث: الاستنساخ وتوليد الاطفال من الانابيب بدل الاجنّة، لكن هاكسلي المنتمي الى احدى عائلات العلم والسياسة والمال، تخيل ايضاً هذا العالم المادي الذي نحن فيه: عالم بلا مشاعر وبلا قلب، كل شيء مسموح فيه بلا ضوابط، والانظمة التوتاليتارية تملأه، كما تخيّل جورج اورويل عالمنا في روايته .1984 ويبدو هاكسلي في تخيله البيولوجي واورويل في تخيله السياسي، وكأنهما رسما لهذا العالم خطة ينفذها تقريباً بحذافيرها. او ربما الاصح ان كل ما تخيلوه ظل دون ما وصل اليه العالم من حقائق. فأكبر السرقات في العالم اليوم ليست سرقة الساعات والقلائد، بل سرقة الكلى واعضاء اخرى.