إميل لحود والخيار السياسي الناجح

TT

خرج الرئيس اللبناني اميل لحود من الأحداث التي اندلعت قبل نحو ثلاثة أسابيع أقوى مما كان عليه قبل اندلاعها، وذلك ليس فقط على الساحة المحلية فحسب، بل على الساحتين الإقليمية والدولية. وهو الآن بصدد توظيف مكتسباته الأمنية لتحويلها إلى مكتسبات سياسية من خلال استئناف الحوار مع معارضيه في الأوساط المسيحية والإسلامية، ومن خلال إعادة ترميم الوضع الحكومي الذي اهتز، ومن خلال إعادة التوازن بين السلطات إلى طبيعتها.

أثبت اميل لحود أنه مهما اختلت التوازنات لصالح معارضيه ومعارضي سياساته اللبنانية والإقليمية والدولية، فمبقدوره أن يدقّ النفير ويوجه ضربات محكمة الى اخصام خياراته الوطنية فيجبر الجميع على مراجعة حساباتهم والتعقل قبل أن يدخلوا في مواجهات مكشوفة معه.

وما بدا للعيان انه «ضيق العقل العسكري»، الذي لا يتسع لأي نوع من أنواع المعارضة هو في الواقع مظهر من مشكلة هي أعمق من هذا بكثير. صحيح أن ظاهر المشكلة مظاهرات ورفع شعارات ويافطات من جهة وتوقيفات واعتقالات وتحقيقات من جهة أخرى، لكن باطن الأمر يعكس صراع خيارات بالاضافة إلى صراع نفوذ.

وبرز صراع الخيارات اثر انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان في أيار (مايو) 2000. المعارضون يطالبون بإرسال الجيش إلى الحدود مع إسرائيل وإعادة انتشار الجيش السوري داخل الأراضي اللبنانية، بقصد وقف العمليات الإسرائيلية ضد لبنان من جهة، وافساح الفرصة للخروج من الأزمة الاقتصادية من جهة ثانية. اما اميل لحود فيمانع بارسال الجيش اللبناني إلى الحدود ما دامت اسرائيل لم تنسحب من مزارع شبعا، ولم تقبل بحق عودة الفلسطينيين المقيمين في لبنان إلى ديارهم، ولم تتوصل الى تسوية مع سوريا. وهو يصر على إبقاء سلاح المقاومة اللبنانية مشهوراً فوق رأس المستوطنات الإسرائيلية، ويرى أنه في حال ارسل الجيش اللبناني إلى الحدود في الوقت الراهن، فإنه يعرضه لصدامات مع «حزب الله» ومع المنظمات الفلسطينية مما يعيد انتاج حرب لبنانية جديدة.

وسرعان ما انعكس صراع الخيارات صراع نفوذ ليس بين الحكم والمعارضة فحسب، بل بين أهل الحكم أنفسهم. فشنت المعارضة من خارج الحكومة المتمثلة اساسا بالمعارضة المسيحية، والمعارضة من داخل الحكومة المتمثلة برفيق الحريري ووليد جنبلاط حملات سياسية وإعلامية ضد «عمل الأجهزة» و«عسكرة النظام» و«قمع الحريات» بهدف اجبار اميل لحود على تبديل خياراته وسياسته وشل دوره، وحتى تقصير ولايته عبر الرهان على معارضة أهل بيته وتحديدا الشارع المسيحي.

وجاء رد اميل لحود صاعقاً فتمكن من الامساك بالشارع بصورة مطلقة، وكشف مخططاً إسرائيلياً يرمي إلى الضغط على لبنان للقبول بالشروط الإسرائيلية، ومنها ارسال الجيش اللبناني إلى الحدود تحت طائلة تفجير النعرات والقلاقل الداخلية.

وسقط المعارضون أمام تصميم اميل لحود والتناقضات التي تعصف بصفوفهم، اذ كان من غير الطبيعي ان يدوم طويلاً رهان الشارع المسيحي على القيادات «المقربة» من سوريا ورهان هذه القيادات «المقربة» من سوريا على الشارع المسيحي، وكان لا بد أن ينتهي الأمر إلى غلبة اميل لحود على معارضيه ومعارضي خياره الوطني.

ولم تقتصر غلبة اميل لحود على معارضيه من داخل الحكومة ومن خارجها، بل فتحت الباب واسعاً أمام صراع جديد حول مفهوم بناء الدولة. فما حدث يتصل جزئياً بترسبات الحرب وبجملة المشاريع المتناقضة التي لا تزال مستمرة في لبنان.

والواقع ان الصراع حول مفهوم الدولة لم ينته بمجرد إقرار اتفاق الطائف ووقف الحرب في لبنان، فمعظم أطراف الحرب اللبنانية، بقيت على رهاناتها في شأن بناء الدولة التي ترضي طموحاتها بمنأى عن القواسم المشتركة التي ترضي طموحات اللبنانيين وتوحدهم وتعمق صيغة العيش المشترك في ما بينهم.

ولو أن هؤلاء الأطراف اقتنعوا بقدرهم المكتوب في اتفاق الطائف، لكانوا أنهوا صراعهم على السلطة وتشبثوا بضرورة تغليب مشاريع الأمن والاستقرار على ما عداها من المشاريع الأخرى التي تبقي البلاد أسيرة التجاذبات والتوترات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ويأخذ استمرار الصراع الداخلي حول مفهوم بناء الدولة منحى آخر إذا ما ارتبط من قريب أو بعيد بما يمكن أن يفيد المشروع الإسرائيلي في لبنان، الذي تراجع إلى حده الأدنى، لكنه ما زال قائماً.

صحيح أن الجيش الإسرائيلي انسحب من لبنان، لكن المشروع الإسرائيلي في لبنان لم ينسحب معه. وهو مستمر بأشكال أخرى ويستهدف ضرب صيغة التعايش اللبناني وبرنامج النهوض الاقتصادي في لبنان خوفا من أن يتحول هذا الوطن الحي والمميز إلى منافس اقتصادي قوي لإسرائيل ومناقض حضاري للدولة العبرية. ولا تتوانى الدولة العبرية في العمل على كل ما يزعزع الأمن والتعايش والدولة والاقتصاد في لبنان.

فإسرائيل صاحبة المصلحة المباشرة في ممارسة الضغوط على اميل لحود من أجل ارسال الجيش اللبناني إلى الحدود معها، وتشاركها الولايات المتحدة في هذه المصلحة، وقد ضربت حصاراً اقتصادياً على لبنان وأعاقت وصول المساعدات المالية الدولية وحتى العربية إليه، وربطتها بشرط انتشار الجيش على الحدود مع إسرائيل.

وأظهرت التحقيقات القضائية الأخيرة، بأن تعبئة الشارع المسيحي ضد رئيس الجمهورية تتصل بشكل مباشر أو غير مباشر بتلك الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي تمارس عليه من أجل إرغامه على القبول بمشروع إرسال الجيش إلى الحدود لإراحة تل أبيب من «حزب الله».

وإذا كان الرئيس لحود نجح في إفشال هذه الجولة من الضغوط الإسرائيلية والأميركية من جهة، وفي كبح جماح المعارضين وإيقافهم عند حدهم من جهة أخرى، فلا تزال أمامه مهمة إعادة تصحيح التوازن الداخلي لحسم الصراع حول مفهوم بناء الدولة بصورة ناجزة وأكيدة قطعاً لأية محاولات تستهدف تصديع الوضع الأمني ولا سيما الاقتصادي.

ومما لا شك فيه أن اميل لحود يستطيع أن يحسم الوضع الأمني بقدراته العسكرية الذاتية، وان يدير الحوار مع بعض معارضيه بمساعدة من دمشق، لكن الصعب عليه هو الوضع الاقتصادي الذي يحتاج إلى مساعدات عربية عاجلة.

خيار اميل لحود الناجح أمنياً وسياسياً يحتاج إلى دعم عربي لينجح اقتصادياً، انها دعوة مفتوحة للعرب ليسمعوا ويعوا خطورة ما يجري في لبنان.