من الرمي في البحر.. إلى (التثبيت) في اليابسة ! مراحل التلاعب.. وخيارات العمل

TT

هذا المقال وصْلٌُ لمقال الاسبوع الماضي، بمعنى أنه امتداد للحديث عن (الشفافية الواجبة).

لقد شقيت الامة كثيرا وطويلا بالغموض والابهام والسرية الكهنوتية، شقيت وأُتلفت قضاياها بهذا المركّب المظلم، ولا سيما القضية الفلسطينية.. وليس يُزاح الشقاء، وينهي الإتلاف إلا بـ(الشفافية الكاشفة)، على مستوى البصيرة الشعبية على الأقل.

فمن الشفافية: أن تعلم الشعوب العربية: أن القضية الفلسطينية قد مرت بمراحل مختلفة:

1 ـ مرحلة التواطؤ الدولي الإجرامي على تمكين اليهود الصهيونيين في فلسطين، وهي مرحلة شهدت الخيانات العربية ايضا.

2 ـ ومرحلة السطو على السلطة بذريعة تحرير فلسطين، وهي المرحلة التي ارتج فيها الوطن العربي بزلازل الانقلابات التعيسة.

3 ـ ومرحلة المتاجرة بالقضية الفلسطينية والمزايدة عليها في سوق السياسة المهرجة.

4 ـ ومرحلة الهزائم الساحقة الماحقة التي ضيعت ما بقي من فلسطين، وما ضُيِّع مع هذه البقية من ارضين عربية اخرى.

5 ـ ومرحلة (تثبيت) العدو في اليابسة الفلسطينية (بعد شعار رمي العدو في البحر) وهي مرحلة اتسمت بتقنين الباطل الصهيوني في فلسطين، ومحاولات التطبيع معه.

6 ـ ومرحلة (عودة الكفاح الفلسطيني)، وتجديد الوعي والشعور بالقضية، وبطبيعة الصراع، وبمشروعية كفاحه بكل وسيلة مستطاعة.. وهذه مرحلة ماثلة شاخصة.

7 ـ ومرحلة جعل ركام التفريط والتقنين (قيدا) على حركة الأمة: السياسية والنضالية.. وهذه مرحلة ماثلة شاخصة كذلك (في فقرة تالية اشباع لهذا المعنى).

ومن الشفافية: ان تعلم الشعوب العربية: ان الصراع الدامي المكفهر في فلسطين المحتلة اليوم قد أعاد (اكتشاف شعب عظيم).. جد عظيم، هو الشعب الفلسطيني، وان هذا الشعب الحي الشامخ قد حقق مكاسب حقيقية على الرغم من عسر الظروف.. وضخامة امكانات العدو.. وخذلان الامة التي كأنها استعارت المنطق الذليل لليهود وهم يقولون لموسى ـ عليه السلام ـ : «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون».. أو هكذا يبدو ـ على الأقل ـ موقف عدد غير قليل من الحكام العرب.. نعم. حقق الشعب الفلسطيني العظيم ـ على الرغم من ذلك كله ـ مكاسب متنوعة من بينها: وحدته القوية الوثيقة في مواجهة عدو يريد ابادة الفلسطينيين اجمعين.. وإحياء القضية التي كادت تدفن بواسطة أوسلو وغيرها.. وكسر سلاح الخوف الذي دأب الكيان الصهيوني على سلِّه في وجوه الفلسطينيين وهو سلاح: الموت. فقد فُل هذا السلاح وغُل بتسابق الشباب الفلسطيني الى الموت.. وتحطيم النظرية التي انتخب النازي شارون على اساسها وهي نظرية: تحقق الامن لليهود الصهيونيين عن طريق قتل الفلسطينيين واغتيالهم. فقد ثبت ان هذه النظرية فشلت، وذلك بدليل صهيوني وهو: أنه وفق آخر استطلاع للرأي في جمهور المؤسسة الصهيونية، تبين ان 70% من اليهود قالوا: ان شارون لم يحقق لهم الأمن.. والوقائع تصدق هذه النتيجة. فالصهيوني المعتدي فقد الامن في كل مكان: في الباص.. والشارع والمطعم الخ. ولا شك ان هذا الفزع جزء من العقاب المعجل، أي انه نتيجة مكافئة لسياسات الترويع الشاملة التي ينتهجها العدو ضد الشعب الفلسطيني: «وقد خاب من حمل ظلما».

هذه المكاسب، يسعى عرب مخذلون متخاذلون الى (اجهاضها) تحت غطاء: لجم العنف، والرحمة بالفلسطينيين «!!».. ولكن الراجح ان السبب ـ فيما يبدو ـ هو : جذوة الشعور الديني المتقدة في نفوس المقاومة الفلسطينية.. وهذا أمر يكاد يكون بدهيا لمن يتعرض او يتعرف على التاريخ النضالي للشعوب ضد الاستعمار، وضد الغزاة بوجه عام. فالشعب المقاوم يبحث بجد عن كل رصيد يدفع به عدوه. ومن المعروف: أن الدين رصيد زاخر يمد المدافعين بطاقات لا حدود لها من الاقدام والثبات والصبر.. يضم الى ذلك: ان هناك ما يمكن تسميته بـ(الغيرة السياسية والاعلامية) من شعور الشعوب العربية بالفخر والاعتزاز تجاه ما تقوم به المقاومة الفلسطينية من كرّ متواصل على العدو، ومواجهة يومية له، ولو كان الغيارى من هذا الفخر يعقلون لأدركوا: ان من اسباب هذا الشعور بالفخر هو: المقارنة بين شجاعة المقاومة الفلسطينية، وبين مواقف خائرة خانعة لانظمة عربية. اي ان خنوع هذه الانظمة الزائد عن الحد هو الذي رفع معدلات الفخر والاعتزاز الشعبيين بما يفعله المناضلون الفلسطينيون.. والتلبية المشروعة والذكية لهذه الغيرة، ليس في تمني اختفاء المقاومة من الارض او اصابتها بشلل كامل. فهذه امنية غير كريمة، وغير واقعية، وانما تتمثل تلك التلبية في التحرر من حالة: (اننا لا نردّ يَدَ لامس)، وفي مباشرة موقف حر وعملي من العدو.

ومن الشفافية: الجهر بأن ما يجهله زعماء عرب هو:

أ ـ ان وعي الشعوب قد نضج، وأن الخطاب الذي كان يخدعها بالأمس، لم يعد قادرا على ممارسة الخدعة ذاتها اليوم.

ب ـ ان الاكاذيب السابقة قد أورثتها حصانة ضد الأكاذيب الجديدة، وملأتها استخفافا بالكذابين الجدد.

ج ـ ان هذه الشعوب، وان كانت في حالة كمون الآن، فإنها ستنفجر في يوم ما إذا ظل الحال على ما هو عليه.. نحن دعاة استقرار، إذ لا تقدم في أي مجال بدون استقرار. بيد ان الضغط العنيف على اعصاب الأمة والتفريط المخيف في حقوقها هو الذي يقوض الاستقرار تقويضا. وينسفه نسفا: اليوم، أو غدا، أو بعد.. ومن فقدان الذكاء السياسي: التورط في سوء التقدير، وسوء الحساب، فكأيّ من زعيم اخطأ التقدير والحساب، فضحك قليلا، وبكى كثيرا.

ومن الشفافية: ان يقال بوضوح: انه ليس صحيحا ان خيارات العمل والحركة قد انعدمت او انحصرت في اثنين: إما الحرب.. وإما الركون الى استراتيجية العدو، ومفاهيمه الخاصة في السلام.

بالنسبة للحرب، فان مقولة (لا نريد حربا) هي مقولة خادعة ومضللة: أولا: لان النفي بهذه الطريقة هو نفي غير مسؤول. فالحرب المنفية أو المتبرأ منها ـ فحسب ـ هي: الحرب العدوانية. اما حرب الدفاع عن النفس فستظل ضرورة مشروعة أبدا، والتبرؤ منها يعني ـ بالضرورة ـ : إيثار التمتع بالذل والهوان.. ثانيا، ليس ثمة من يطالب بالحرب الناجزة. فالنفي ـ من ثم ـ نطاح لشيء متخيل، أو هو التواء سياسي ذو دافع غامض.

في ما يتعلق بالخيارات الأخرى ـ غير الحرب ـ فهناك أكثر من خيار عملي داني القطوف. وان من اشد انواع السياسة فشلا وتحجرا: ألا يدرك السياسي: ماذا يريد؟. وألا يعرف كيف يتحرك؟

من هذه الخيارات العملية ـ التي ذكرنا خيارا واحدا منها في مقال الأسبوع الماضي ـ :

1 ـ خيار المقاطعة الاقتصادية والسياسية، وهو خيار مؤلم للعدو، ومحبط لمسعاه.. فمن الاهداف الاستراتيحية الثابتة للكيان الصهيوني: هدف (التطبيع) مع المجتمعات العربية.. والاقتصاد هو أوسع وأجدى أنواع التطبيع، ولذلك حرص ـ مثلا ـ على اقتراح قيام مؤتمر اقتصادي دوري وهو (المؤتمر الاقتصادي للتنمية في الشرق الاوسط والشمال الافريقي).. ولقد كافح طويلا ـ ومعه أمريكا ـ على انهاء المقاطعة الاقتصادية العربية له.. هذا كله يدل على ان المقاطعة الاقتصادية تنال منه، أي منال. ومن هنا يجب ان تكون، وأن تتعزز، ولا سيما انه قد اقترف كل ما يوجبها ويؤصلها.. والمقاطعة الاقتصادية شيء مشروع. فهي من تصرفات السيادة الوطنية.. ومقتضى هذه السيادة: أن من لم يستطع ان يقاطع فهو منقوص السيادة، وان ثرثر، وتمطى، وزعم أنه سيد!!.. والمقاطعة مشروعة على مستوى الامم المتحدة. فمنذ عام 1990 فرضت الامم المتحدة المقاطعة الاقتصادية على 11 دولة. في حين فرضت الولايات المتحدة الامريكية ـ في الفترة نفسها ـ المقاطعة الاقتصادية على 35 دولة. ومنذ قليل جدد الكونجرس الامريكي فرض العقوبات على ليبيا وايران لمدة خمس سنوات اخرى.. يجري ذلك في ظل (العولمة) التي يحاول منافقون عرب ان يعللوا بها موقفهم المعارض لمقاطعة العدو (المهم في قرارات وزراء الخارجية العرب هو صدق التطبيق). 2 ـ خيار الاستنفار الدبلوماسي الشامل، وذلك لتحقيق هدفين متداخلين: هدف كسب تفهم افضل للقضية، وتفاعل اقوى معها من قارات الارض كلها.. وهدف تطويق حركة العدو التي اتخذت من هذه القارات مسرحا لها.

3 ـ خيار الهجوم الاعلامي الرادع.. فلا يزال الاعلام العربي متلبسا ـ في جملته ـ بتهمة او جريمة التقصير والتفريط والخذلان. وساقطة تلك الحجة التي تتذرع بالخلافات العربية. فهناك ما هو متفق عليه، وهو كثير وكاف في هذا المدى الزمني.. هناك القدس. ويجرؤ ـ من ثكلته أمه من الحكام العرب ـ على ان يقول: ان القدس حق لليهود وحدهم.. وهناك حقوق الشعب الفلسطيني في التحرير والاستقلال والعودة.. وإذا كان ثمة معارض فليبرز للأمة حتى تحكم عليه بما يستحق.. إن الاعلام العربي يستطيع ان يجمع على هذه القضايا وان يخدمها بمنطق جماعي.. ومن ايسر الأمور في ذلك: أن يختار مصطلحات عربية خالصة، ويجمع على استعمالها كبديل للمصطلحات الاعلامية الصهيونية التي غزت العقل السياسي العربي. فينبغي ان يحل مصطلح (الكفاح الفلسطيني المشروع من اجل الحرية والاستقلال) ـ مثلا ـ محل مصطلح (العنف الفلسطيني)، او العنف المتبادل. فقد دأب حكام عرب على استعمال المفردة الاخيرة: تقليدا للأمريكان والصهاينة.

4 ـ خيار الدعم المالي المتصل.. والمطلوب هو: حملة جديدة واسعة النطاق، طويلة النفس، يبتدرها ـ كقدوة ـ الحكام العرب، كل بما يستطيع، يتبعهم في ذلك رجال الاعمال، ثم سائر الامة.. وفي الحقيقة، فان الحملة قد بدأت مع بواكير الانتفاضة الثانية. واذ كان من الخُلق: ان نتقدم بالتحية والتقدير للذين التزموا بالدعم، ووفوا به تباعا، فاننا نقول للذين ترددوا: لا تصغوا الى نصائح الأمريكان وتحذيراتهم بأن مساعدة الفلسطينيين = مساعدة الارهاب. فالكفاح الفلسطيني ليس ارهابا، وغير محترم، وغير عادل من يسميه كذلك.. هذه واحدة.. والاخرى: ان امريكا ذاتها تدعم الارهاب الحقيقي، وهو الارهاب الصهيوني بالمال، وبكل شيء. وفرق كبير ـ في القانون والأخلاق ـ بين من يدعم المعتدي، ومن يدعم المدافع عن نفسه، فالقوة تسخر لنصرة المستضعفين، لا لنصرة المجرمين: «رب بما أنعمت علي فلن اكون ظهيرا للمجرمين».