ما دمت أقرأ.. هذا يكفيني!

TT

وكانت السيارات الباهرة تخترق الريف. تبهر الأطفال هذه العربات المضيئة التي تعلن عن أسبرين باير. وكانت هذه السيارات لغز حياتي في ذلك الوقت. فالسيارة إذا لمستها صعقتك. ولذلك يجب ألا تقترب منها. وكانت هذه السيارات تتجه إلى (الخرابات) ـ أي الأماكن الخالية من السكان. وفي هذه الخرابة تضع شاشاتها الكبيرة على الحائط وتظهر رسوم كاريكاتورية لأناس أصيبوا بالصداع. حتى إذا جاءهم الأسبرين تحولوا إلى عفاريت في النشاط والحيوية.

وفى بلدنا المنصورة جاليات إيطالية ويونانية وفرنسية ومهاجرون يهود. ولم نفهم كلمة مهاجر، ولماذا هاجر؟ ومن أين؟ ولم نجد أي فارق بين اليهود الذين نعرفهم وهؤلاء المهاجرين. ولا بين اليهود والمصريين ـ ربما كان الفارق الوحيد هو أن بيوتهم نظيفة. وهم يتكلمون لغات أجنبية كثيرة. وهذه الجاليات لها مدارس.. وفي هذه المدارس يعلموننا لغتهم مجانا. وأحيانا يعطوننا الهدايا كتبا.

وأدهشني فيما بعد أنني حفظت نشيد (ألمانيا فوق الجميع) ولم أعرف النشيد الوطني المصري؟!

وسألتني أمي: مالك يا ابني؟

ـ ولا حاجة يا ماما..

ـ مريض؟

ـ لا لا . في صحة جيدة..

ـ ولكن أنت لا تأكل ولا تنام ومذاكرتك متقطعة ومسكين يا ابني ليس لك ذنب في مرضي ومرض أبيك. ولماذا أنت الضحية يا ولدي. أدعو لك من قلبي إن ربنا يسترك ويحميك ويرفعك لقاء عذابك معنا.

ولم أسترح لما قالته أمي. فأنا لم أفكر لحظة واحدة في أنني أقوم بأي شيء أستحق عليه الشكر. وأنا راض تماما ما دمت قد أرضيت أمي وأبي. يكفي هذا. ويظهر أن الله قد استجاب لدعاء أمي. فأنا كما تتمنى أمي ناجح وترتيبي الأول حتى تخرجت في الجامعة.

ولم يتسع وقتي لكي أفكر في هذه العلاقة التي تربطني بأمي. ولماذا أحب أمي كثيرا. وإن كنت أحب أن أجلس إلى أبي فهو مثقف في الدين وهو شاعر صوفي. يتوكل على الله. زاهد في الدنيا. ولا يضايقه أن يعيش على الكفاف. وأمي لا تخفي عدم ارتياحها لأنني أشبه أبي في الزهد في الحياة وأنني أقبل أي طعام وأي لبس. وأنني لا أطلب ملابس جديدة مكافأة على تفوقي. ولكن أمي تحب الحياة الفخمة وتحب الأبهة ـ أي تحب أن تعيش في أبهة وفخفخة وخدم وحشم ـ تماما كما لا يحب أبي ولا أحب أنا!

يكفيني جدا أن أجد ما أقرأه..