المحكمة المنسية

TT

في بلغراد، عاصمة الصرب، هناك من يشعر أن مجرمهم مظلوم باستثنائه بالمحاكمة، في وقت ينام بقية مجرمي الحرب في العالم قريري العين في أسرتهم. رادوفان كاراجيتش جزار حرب البوسنة المتهم بقتل آلاف الأطفال والنساء من مسلمي يوغسلافيا في زمن الحرب الأهلية الماضية يسكن الآن في زنزانة توقيف تابعة للمحكمة. قُبض عليه أخيرا بعد أن ظن أن العالم نسيه وجرائمه.

يعلم هذا الطبيب، الذي تحول إلى وحش سياسي، أن حظه في الإفلات من السجن مثل حظ الآلاف من ضحاياه الذين قتلهم جماعيا في غرف سد أبوابها رجاله ببنادقهم، باستثناء أنه سينتهي في السجن. لهذا السبب يريد تعطيل المحاكمة وتَعمّد التغيب عن أول جلستين للمحكمة هذا الأسبوع. كاراجيتش يقول إنه منشغل بقراءة مليون صفحة و54 ألف دليل ضده كالقضايا الموثقة بالأسماء والأفلام، تقول إنه شخصيا كان يعطي تعليمات القتل وهو يجلس خلف عسكره يتفرج عليهم يطلقون الرصاص على العُزْل الواقفين أمامهم. المجرم استخدم ضخامة الأدلة التي جُمعت ضده حجة للتغيب عن جلسات المحاكمة بدعوى أنه يحتاج إلى سنتين لمراجعتها.

أما أنصاره في بلغراد فيعتبرونها محاكمة سياسية، ليس لأنهم ينكرون أنه ارتكب جرائم بشعة بل لأنه وزميله المجرم سلوبودان ميلوشفيتش الذي مر بنفس المحكمة، استُثنيا بين مجرمي الحرب في العالم بالمحاكمة. طبعا الاستثناء الآخر الذي حوكم كان تشارلز تايلور مجرم حرب ليبريا. محاكمة كاراجيتش أكثر من واجب قانوني التزمت به المحكمة الدولية، مطاردته لسنوات، ثم القبض عليه، وجلبه للمحاكمة في حد ذاته انتصار للعدالة، مع هذا تكاد تكون الرسالة الأساسية من وراء المحاكمات الدولية قد ضاعت بسبب غياب الاهتمام بها. تحولت إلى واجب قانوني كما لو كانت جريمة قتل عادية في أي شارع عادي. غابت عنها الدعاية والإعلاميون ونسيت رسالتها السياسية بأن من يتعمد التخلص من ضعفاء المجتمع وأقلياته قد ينتهي في مثل هذه الزنزانة. مات ميلوشفيتش قهرا في سجنه، لأنه عجز عن تقبل نهايته المهينة، وهذا ما جعل زميله، المجرم الأكبر الذي يحاكم اليوم، يعيش في الخفاء لسنوات خشية القبض عليه، حتى جاءت النهاية محتومة. وهنا لا بد من تقدير الجهود الدولية التي لم تكلّ رغم أن الأنوار أطفئت على جرائم البوسنة وصارت فصلا منسيا من التاريخ. هذا العمل العظيم بتقديم كاراجيتش للمحاكمة لم يحظَ بما يستحق من اهتمام. أهمية محاكمة مجرم البوسنة في ردع المجرمين الآخرين وتخويفهم من ارتكاب المزيد من الجرائم. لو منحت المحاكمة الاهتمام وسلط عليها الضوء لصارت عبرة لبقية الجالسين على الكراسي الذين يظنون أن ارتكاب الجرائم حق سيادي وشأن داخلي أو مبرر باسم الدين أو الفوز الديموقراطي. قيمة المحاكمة ليست في معاقبة مجرم واحد قتل آلافا من الأبرياء بل أيضا في منع العديد من الطموحين الذين يعتقدون أن ارتكاب القتل الجماعي ضد العزل يحقق لهم السيطرة والانتصار والبطولة الشخصية. معظم هؤلاء الأبطال، كما رأيناهم في المحاكمات، جبناء يدب الرعب في أنفسهم عند إصدار خبر عن ملاحقتهم، ويحاولون بشتى الطرق التحصن في قصورهم. هذه أهمية المحاكمات في عالمنا المتوحش.

[email protected]