«التوافق» و«المصالحة».. اللعبة نفسها والمعلم إياه!

TT

كما هو الوضع في لبنان عندما أشهر حزب الله باسم حلفائه «الأتباع» في وجه الممارسة الديمقراطية والاستحقاق الدستوري سيف « التوافق الوطني» كذلك الأمر بالنسبة للفلسطينيين، حيث يشهر خالد مشعل باسم فصائل دمشق في وجه الخطوة الدستورية التي أقدم عليها محمود عباس (أبو مازن) مضطراً سيف «المصالحة الوطنية»، وهذا هو التجسيد لذلك القول المأثور : «كلام حق يراد به باطل».

ولعل ما هو معروف، حتى للذين اعتادوا وضع أيديهم فوق عيونهم حتى لا يروا الحقائق شاخصة كما هي، أن مرجعية خالد مشعل ومجموعته هي مرجعية الشيخ حسن نصر الله وأتباعه وأن الذين اختطفوا لبنان كل هذه الفترة منذ عام 2005 هم أنفسهم الذين يختطفون الوضع الفلسطيني والهدف إن هنا وإن هناك هو استخدام هاتين القضيتين المخضبتين بدماء اللبنانيين والفلسطينيين الأبرياء في سوق المساومات الجارية الآن إن على الصعيد الإقليمي وإن تحت وفوق المائدة الدولية.

لقد بقي حزب الله يصرُّ على ضرورة إنجاز «التوافق الوطني» أولا وقبل تشكيل هذه الحكومة المستعصية، التي يحاول تشكيلها سعد الحريري، وهو يعمل ضد مثل هذا التوافق وها هي «حماس» الآن وانضباطا بالمرجعية نفسها وللغرض نفسه ترفع شعار: «لا انتخابات» قبل «المصالحة الوطنية» وكل هذا وهي لم تستكمل غسل يديها بعد من دم هذه المصالحة المسكينة التي وجهت إليها الطعنة القاضية قبل أيام عندما رفضت التوقيع على الورقة المصرية التي جرى إعدادها بعد مسيرة «ماراثونية» طويلة شاركت فيها كل الفصائل الفلسطينية الحقيقية والوهمية وعندما قامت بذلك الانقلاب الأسود في يونيو (حزيران) عام 2007.

إن حزب الله، الذي يستخدم الجنرال ميشيل عون كبيدق صغير متقدم على رقعة الشطرنج اللبنانية، عندما يرفع شعار: «التوافق الوطني» فإنه يريد توافقاً بالمواصفات والمقاسات التي تتلاءم وتتطابق مع المشروع الإيراني في هذه المنطقة ولهذا فإنه، حتى وإن استطاع سعد الحريري إنجاز معجزة تشكيل حكومته التي مضت كل هذه الشهور وهو يحاول عبثاً تشكيلها، سيبقى يختطف الوضع اللبناني وإنه سيبقى يترك هذا الوضع معلقاً من رموشه إلى أن يتحقق ما تريده طهران وما يريده الحلفاء التابعون الذين تشبه حالهم حال الأسماك الصغيرة التي تلتصق دائماً بالحيتان الكبيرة لتحصل على فتات ما تتركه مـن فرائسها البحرية.

وإن هذا هو ما تحاول أن تفعله «حماس» الآن فهي كانت قد ذبحت الوحدة الوطنية الفلسطينية من الوريد إلى الوريد عندما قامت بانقلاب يونيو (حزيران) عام 2007 الدموي فعلا وفصلت غزة عن الضفة الغربية، وأقامت إلى جانب السلطة الوطنية هذه الإمارة «الإسلاموية» وليست الإسلامية التي كما اتضح خلال مسيرة المصالحة الطويلة التي رعتها مصر بصدق وأمانة وإخلاص، لا يمكن أن تتخلى عنها لأن قرار التخلي عنها ليس بيدها بل بيد المرجعية الإيرانية وعلى غرار حقيقة واقع الحال في لبنان.

لا تريد حركة «حماس» هذه «المصالحة» التي تشهرها كسيف بتار في وجه الانتخابات الدستورية التي أصدر (أبو مازن) المرسوم الرئاسي الذي أصدره بشأنها قبل أيام وهي بالأساس، حتى قبل اتفاقيات أوسلو وقبل إقامة السلطة الوطنية، كانت قد رفضت الانضمام لمنظمة التحرير رغم كل الإغراءات المجزية التي كان ياسر عرفات (أبوعمار) قد عرضها عليها فهي مشروع أحادي أنشئ أساساً من قبل التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ليجبَّ ما قبله وليرث الساحة الفلسطينية ومن عليها ولتكون تجربته المتقدمة التي سيسعى لاحقاً إلى تعميمها في المنطقة العربية والإسلامية.

ترفض «حماس» هذا الحل المطروح الآن القائم على اتفاقيات «أوسلو» التي استفادت منها أكثر من استفادة منظمة التحرير، لأنها تريد حلها الخاص وهو حلٌّ ثبت بالدليل القاطع أنه، وفقاً لما عُرض على الإسرائيليين عبر وسطاء أوروبيين، يستند إلى معادلة من خطوتين هما الأولى دولة فلسطينية بحدود مؤقتة، والثانية هدنة لتكريس الأمر الواقع تمتد إلى فترة عشرين عاماً.

ولهذا فإن «حماس» لا تريد «المصالحة» لأنها ترفض مبدأ الشراكة وتريد الانفراد بمستقبل القضية الفلسطينية كله وحدها وكذلك فإنها ترفض الاحتكام لصناديق الاقتراع والانتخابات لحسم هذا الانفصال الجغرافي والسياسي، لأنها تخشى أن تضيع منها هذه الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر والتي أرادها التنظيم العالمي للإخوان المسلمين مدخلا نحو المنطقة العربية والعالم الإسلامي بأسره.

لا تريد «حماس» لا «مصالحة» ولا انتخابات وهي بالأساس كانت قد استغلت حكاية تأجيل مناقشة تقرير غولدستون حول الحرب على غزة في اجتماع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف استغلالا بشعاً للتخلص من محمود عباس (أبو مازن) ولتدمِّر الشرعية الفلسطينية ولتتخلص من هذه «منظمة التحرير» ولتنفرد وحدها بكل شيء وتنفذ حل الدولة ذات الحدود المؤقتة المترافقة مع هدنة طويلة تمتد إلى عشرين عاماً.

وكل هذا بينما كانت، أي «حماس»، قد رفضت هذا التقرير واتهمت صاحبه بأنه صهيوني يعمل لحساب إسرائيل ونددت بمحمود عباس واتهمته بالخيانة الوطنية لأنه رحب به، ثم ما لبثت أن تخلت عن كل هذا عندما لاحت فرصة للانقضاض على الرئيس الفلسطيني وهذا ما يحدث الآن، حيث كانت هذه الحركة قد أفشلت «المصالحة» ورفضت الورقة الفلسطينية ثم بادرت إلى استخدامها كسلاح اعتراضي ضد قرار (أبو مازن) بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها الدستوري في الرابع والعشرين من يناير (كانون الثاني) العام المقبل.

لقد بقيت «حماس» تصر خلال مفاوضات «المصالحة» التي انتهت إلى هذه النهاية المحزنة والمخزية أيضاً على دفع استحقاق الانتخابات بعيداً وتأجيلها إلى ما بعد العامين المقبلين ولذلك ولأنها ملتزمة بالالتزام نفسه الملتزم به حزب الله في لبنان فإنها ستواصل السعي لمنع إجراء هذه الانتخابات مستعينة بالدعم الإيراني غير المحدود ومستندة إلى مساندة فضائية «الرأي والرأي الآخر» وإلى سلاح الجغرافيا السياسية الذي يوفره لها تمركزها في دمشق ومعها كل هذا الديكور الفصائلي الذي لا وجـود له على أرض الواقع لا داخل فلسطين ولا خارجها.

كل قادة «فتح» الذين أدلوا بتصريحات على هامش صدور مرسوم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها الدستوري في الرابع والعشرين من يناير (كانون الثاني) المقبل وعلى رأسهم بالطبع محمود عباس (أبو مازن) أكدوا على أن هذه الخطوة لا تعني إغلاق أبواب «المصالحة» مع «حماس» بل وبعضهم ألمح (عزام الأحمد) إلى أنه بالإمكان تأجيل موعد هذه الانتخابات إلى الموعد الذي تضمنته «الورقة المصرية» أي يونيو (حزيران) المقبل إذا تم إنجاز مثل هذه المصالحة، لكن كل هذا لا يمكن التعويل عليه ما دام أن حركة المقاومة الإسلامية مثلها مثل حزب الله ملتزمة بالمرجعية الإيرانية ولا تستطيع الخروج على هذه المرجعية التي تنظر إلى فلسطين وإلى لبنان واليمن والعراق وإلى هذه المنطقة كلها بكل دولها من زاوية الرقم الذي تسعى إليه في المعادلة الإقليمية.

وهكذا وكما أنه لا يمكن أن تستقر هذه الأوضاع المزعزعة في لبنان حتى لو استطاع سعد الحريري تشكيل حكومة «الوفاق الوطني» التي يحاول تشكيلها ما لم تُحسم الأمور على صعيد المنطقة كلها وتحصل إيران على الرقم الذي تسعى إليه في المعادلة الإقليمية الجديدة، فإنه من غير المتوقع إطلاقاً أن تكون هناك مصالحة فلسطينية وغير المتوقع أن تغير «حماس» خياراتها ولذلك فإنه على (أبو مازن) أن يمضي قدماً وأن يجري الانتخابات التي أعلن عنها في الوقت المحدد في القانون الأساسي (الدستور) وذلك لأن البديل هو الفراغ الذي تريده هذه الحكومة اليمينية الإسرائيلية.