«الحمّص» يبيض ذهبا

TT

اللبنانيون محقون في شن حرب ضد إسرائيل لاسترداد حقهم في صحني «الحمص» و«التبولة». تشبيه هذه المنازلة بتحرير «مزارع شبعا» و«تلال كفرشوبا» لا يجانب الصواب. المنازلات بين دول العالم قائمة على قدم وساق، لتثبت كل منها حقها في هذا الطبق أو تلك الرقصة أو حتى ذاك التقليد، بعد أن فهم الجميع بأن التراث كنز يبيض ذهبا، وقد يدرّ ما لا يستطيعه البترول. وبينما كنا نضيق ذرعا بصحن «البابا غنوج» ورغيف «الخبز العربي» ونحتقر «الفتوش»، لصالح تفرنج يعلي من شأن «السلطة الروسية» وقطعة «الهمبرجر» الأميركية، و«البيتزا» الإيطالية، و«الباغيت» الفرنسية، كانت إسرائيل تتبنى ما وجدته على هذه الأرض وتحتضنه بمحبة العاقر التي تعثر على طفل لقيط، لتجعل منه ابنا شرعيا لها.

أكل المهاجرون العرب في أوروبا طويلا، من أقراص «الفلافل» المعلبة المصنوعة في إسرائيل وعلب «الحمص» و«متبل الباذنجان»، حين كان يقتلهم الحنين إلى أوطانهم، دون أن يجدوا بدائل عربية لها. اليوم استفاقت «جمعية الصناعيين اللبنانيين» على حقيقة أن مليار دولار تطير منها سنويا بسبب التخلي عن «الحمص» وحده ـ فما بالك بما تبقى. هبّت الجمعية تريد أن تثبت أن «الحمص لبناني 100% والتبولة كمان». حملة وطنية تستحق ثقلها ألماسا، شرط أن لا تقف عن الصحنين الأثيرين اللذين طلبت من الطلاب والبحاثة معلومات عنهما، لتوثيق أصالتهما اللبنانية، وتسجيلهما لدى السلطات الدولية المختصة. والسؤال الكبير اليوم: لماذا نصل دائما متأخرين؟

سطت إسرائيل على بعض الأطعمة العربية كي تغطي عريها الثقافي، وبحثت عن رداء فولكلوري تستر عورتها به فوجدت الثوب الفلسطيني، واستجدت نبتة وطنية فعثرت على الصبّار، الرمز الوطني الفلسطيني أيضا. أما عن الآثار فقد زورت من القصص والروايات التاريخية ما لا يعد ولا يحصى، دون أن تجد من يتصدى لها بروايات مضادة.

بقي العرب يظنون أن الثقافة هي شعر وروايات وبعض الإيماءات، وصفحات صحافية محنطة، حتى استفاقوا ذات يوم يسألون عما تبقى فلم يجدوه.

الاستفاقة المتأخرة للصناعيين اللبنانيين ليست كافية. الوعي الجماعي بأهمية الإرث الذي قطع القرون معنا، وذاب في دمائنا وعروقنا، يغطّ في إغماءة عميقة. ولا شيء يشي أن ثمة ما سيتغير في القريب العاجل. السروال اللبناني القروي اختفى تقريبا، وما قد نجده في الأسواق مصنوع في الصين، كما الكوفية الفلسطينية التي كادت تُنسى، لولا أن استعادتها الموضة الغربية مزركشة ومشوهة بألف لون. الأرجنتين والأوروغواي أقامتا حربا شعواء لإثبات أبوتهما لرقصة «التانغو». وهما تعلمان أن البنوة ليست مجانية، وحظيتا بما أرادتا. اليونان صارعت من أجل جبنة «الفيتا» وربحت واستعادتها، وبات أي تصنيع للفيتا لا بد أن تكون إحدى مكوناته مستوردة من اليونان، وهو ما فعلته فرنسا مع جبنة «الروكفور». تركيا فهمت اللعبة بدورها واستطاعت أن تستعيد شخصية «كركوز» وتحررها من الادعاءات اليونانية. المنازلات بين تركيا واليونان طاحنة كما كتب زميلنا سمير صالحة في «المنتدى الثقافي»، منذ أسابيع فقد شملت «القهوة» و«الكنافة» و«الحلقوم»، والحبل على الجرار. كل هذا الذي يجري في الكواليس الدولية وعلى المنابر ليس مزاحا وتضييعا للوقت، كما يظن الساخرون من معركة صحن الحمص. وحدهم التجار والصناعيون يعرفون اليوم معنى أن يتبرأ العرب من «ألف ليلة وليلة» ويحرقوها في الساحات. هذا هو حقا الغباء حين يتجلى نارا تشعل الثروات التي تركها لنا أجدادنا نضرة، نابضة بالعشق والمغامرات.

استمات العرب لتبوُّؤ رئاسة اليونسكو، وما كانوا يستحقونها. فهذه منظمة دولية، وظيفتها الأولى الحفاظ على الإرث، و«فاقد الشيء لا يعطيه». فكيف يؤتمن على أعلى هيئة معنية بالتراث الإنساني من يخجلون بتراثهم ويتبرأون منه، ويحكمون على ما يستطيعون منه بالإعدام؟!

نحن نسأل هنا اللبنانيين المتحمسين الذين تجمهروا حول صحن التبولة العملاق في عطلة الأسبوع الماضي، لإدخاله موسوعة «غينس» نكاية بإسرائيل التي تسرق ولا تذر، أوليس «المال السائب هو من يعلم الناس السرقة»؟ ثم ماذا عن رقصة الدبكة يا إخوان؟ هل ننتظر أن تتبناها إسرائيل، كي نتحلق حولها؟ لماذا مات الرقص الفولكلوري، وبات حتى «كركلا» يجافيه لصالح قفز وهرج لا هوية لهما؟ الأسئلة كثيرة بعد أن بات «كل فرنجي برنجي». هل سنستشيط بعد أن تدعي إسرائيل حقها في «المنقوشة» و«الخروب» و«العرقسوس» لنقلع عن الاستماتة في سبيل الكرواسان و«الكوكاكولا» و«البيبسي»؟

ثمة ظاهرة عفية كي لا نبقى في حزن سلبي دامع. يلحظ الداخل إلى المقاهي اللبنانية، عودة إلى «السحلب» وشراب «الينسون» و«التمر هندي» وأطعمة ومشارب محلية أخرى. وعمدت إحدى الشركات إلى تصنيع التمر هندي بنكهة غازية. الحنين الشعبي العربي لتراث الأجداد الذي تمظهر قويا، بعد نجاح مسلسل «باب الحارة» بقبضاياته ومأكولاته وعاداته، يستحق من الجهات الرسمية التفاتة وتشجيعا.

فهمَت الدول الأوروبية منذ منتصف القرن الماضي قيمة المخزون الثقافي الجمعي بمعناه العريض، واستحدثت وزارات للثقافة، كانت تسعى لصيانة وحماية الإرث المعنوي والمادي للبلاد. وزارات استُنسخت مشوهة في البلاد العربية، وتجلت مسوخا لا هم لها سوى القمع والمراقبة، وتحويل المثقفين إلى مرتزقة ومحبرين. لا عيب، اليوم، في أن تتراجع وزارات الثقافة عن انحراف أهدافها، وتعيد تقييم مهماتها. لا عيب أيضا في أن تعتني هذه المؤسسات الرسمية بصيانة ما ورثناه من مأكل ومشرب وملبس وأبنية، والترويج لها وتقديمها للعالم بفخر بدل أن تتلهى بالمقارعات الجانبية، ويبحث وزراؤها عن أدوار دولية قبل أن يثبتوا كفاءتهم المحلية في بلدهم الصغير. ولن نتردد في أن نقول: نعم، من «الفلافل» و«الفول المدمس» و«المنسف» يبدأ الإصلاح.