تقرير الحريات الدينية والعالم العربي

TT

على غير عادته، منذ بدء ظهوره في العام 2000؛ فإنّ تقرير «الحريات الدينية في العالَم» الذي تُصدره وزارةُ الخارجية الأميركية كلَّ عام؛ تضمن هذا العامَ ثناءً على أربع دولٍ عربية هي السعودية والأردنّ وقَطَر وعُمان. في السعودية، أَثْنى التقرير على مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات، والتي بلغت ذروتَها في المؤتمر الذي انعقد بالأُمم المتحدة، وحضره ممثلون لخمسين دولة، بينهم ثلاثون رئيساً، أو رئيس وزراء. وفي الأردنّ أثنى التقرير على مبادرة «الكلمة السواء» التي وقّعها 138 عالماً مُسلماً، توجَّهوا بها إلى المسيحيين، وحظيت باستحسان الكنيسة الكاثوليكية، والكنائس البروتستانتية الكبرى. وفي قطر كان هناك ثناءٌ على مؤتمرات «حوار الأديان»، التي تنعقد بالدوحة منذ خمس سنوات. وفي عُمان أثنى التقرير على سياسات الدولة العُمانية لجهة عدم التمييز على أساس الدين، ولجهة استضافة مؤتمرات ووفود للحوار، ولجهة الحريات الدينية التي يتمتّع بها غير المسلمين من مُواطني السلطنة والمقيمين فيها.

ولا شكَّ أنّ المؤثّر الأكبر في هذه الإيجابيات، ليس تحسُّن أوضاع الحريات الدينية في العالم العربي وحسْب؛ بل والأجواء الجديدة أيضاً التي نشرتها إدارة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، وبدت في خطاباته باسطنبول والقاهرة ومناسبات أُخرى في الولايات المتحدة وخارجَها، وتتعلَّقُ جميعاً بالانفتاح على الإسلام والمسلمين والعرب، كما تنتقد المُقاربات الأميركية السابقة التي شابتْها أيام الرئيس بوش الابن أيديولوجيات صراع الحضارات، والحرب على الإرهاب (الإسلامي).

وقد جاءت مبادرة الكونغرس إلى إصدار قانون يتعلق بالحريات الدينية في العالم، من ضمن سلسلة من القوانين منذ الخمسينات من القرن الماضي، تتجلَّى فيها «الرؤية الأميركية» القائلة بأنّ الولايات المتحدة هي بمثابة «مدينة على جبل» ـ حسب تعبير الإنجيل ـ، وأنها بحكم جوهرها المسيحي المتسامي باعتبارها «أورشليم الجديدة»، تملك تجاه نفسها وتجاه العالم حقوقاً وواجباتٍ في نشر الحريات وصَونها عَبْر العالَم. ولذلك فإنها تُعطي لنفسها حقَّ التدخُّل ـ بحسب ما تستطيع ـ في سائر أنحاء العالَم عندما تتعرض تلك الحريات الإنسانية للخطر أو الانتهاك. وإذا لم يكن التدخُّل العسكري ممكناً في أكثر الأحيان؛ فلا أقلّ من أن يصدر تقريرٌ سنويٌّ عن وزارة الخارجية، يُثني على هذا الطرف أو يُدينُ ذاك، تشجيعاً أو إدانة ولو إعلامية. وكان المُحرِّك لذلك في الأساس ليس المثالية أو حُبّ الحرية بالدرجة الأولى، بل التشنيع على الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فَلَكِه خلال الحرب الباردة. وكانت سائر الجهات الداخلة في حلف وارسو، والعالم الثالث؛ تُقابلُ ذلك بسلبيةٍ شديدة، وبمبرراتٍ متعددة. فهناك من كان يذهب إلى أنّ في التقارير عن حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو الأقليات؛ اعتداءً على سيادة الدول. وكان هناك من يقول إنّ الأميركيين لا يملكون الحقَّ في النعي على الآخَرين، بينما لا يزال عندهم تمييزٌ ضد السكان الأصليين والسود والهسبانك وأقليات أُخرى. وكان هناك أخيراً من يقول إنّ الدوافع في سائر الحالات سياسية؛ بدليل الانتقائية البادية في سائر التقارير، حيث تجري مُراقبة انتهاكات حقوق الإنسان في كوبا أو الصين مَثَلا، ويجري تجاهُل الوضْع المُزْري لحقوق الإنسان في دولٍ بأميركا اللاتينية أو أفريقيا لأنها حليفةٌ للولايات المتحدة!

والواقعُ أنّ الوضْع مع التقرير السنوي للحريات الدينية، مختلف. إذ لم يجر اشتراعُهُ أيّام الحرب الباردة. بل بدأ التفكيرُ فيه بعد العام 1995. وفي النقاشات العَلَنية التي جرت حولَهُ قبل إقراره عام 1998؛ كان هناك حديثٌ عن الحضارة اليهودية ـ المسيحية المتسامية، لارتباطها بفكرة الحرية. كما كان هناك حديثٌ عن التمييز ضد اليهود في العالمين العربي والإسلامي، وضد المسيحيين في الصين وبورما وبعض بلدان العالم العربي. وقد ردَّ أنصار قانون الحريات الدينية وقتَها على نُقّاده من الصينيين والعرب والمسلمين، بأنّ تلك التعللات غير صحيحة، لأنّ الدافع الأساس، أو من الدوافع الأساسية لذاك القانون ما بدا من تمييز ومذابح ضد المسلمين في أقطار يوغوسلافيا السابقة. وأَذكُرُ أنه بعد صدور التقرير الأول عن الحريات الدينية عام 2000 أو 2001، وكان حافلا بالانتقادات الشديدة لدولٍ مثل مصر وتركيا، أنّ السفارة الأميركية ببيروت، دعت مجموعةً من اللبنانيين المختصّين بالأديان أو بحقوق الإنسان ـ وكنتُ واحداً منهم ـ للالتقاء في حَرَم السفارة، بوفدٍ أميركيٍ من النواب وموظفي وزارة الخارجية بينهم وقتَها مفوض متابعة إنفاذ القانون السالف الذكر. وقد انصبّ نقد اللبنانيين في أربعة اتجاهات؛ الاتجاه الأول: الإنكار على الأميركيين حقَّ التدخُّل بما يُهدّد سيادة الدول، ويشجّع على الاضطراب فيها ـ والاتجاه الثاني: الالتباس في مفاهيم «الحرية الدينية» في التقرير، وربْطها دائماً بالأقليات التي قد تكونُ لغوية أو إثنية وليست بالضرورة دينية، لأنّ أتباعها ليسوا من دينٍ واحد ـ والاتجاه الثالث؛ نقد الانتقائية والتسيُّس؛ ففي حين اعتبر التقرير أنّ في مصر وتركيا والجزائر إساءةً للحريات الدينية، ما ذكر كلمةً واحدةً عن إسرائيل التي تتعرضُ بالهدم أو محاولات التخريب للمعابد الإسلامية والمسيحية وفي طليعتها المسجد الأقصى ـ والاتجاه الرابع: ظهور ميول قوية للتمييز ضد المسلمين في التقرير؛ إذ يجري ذكْر التشدُّد الإسلامي باعتباره من مسوِّغات انتهاك الحريات الدينية لغير المسلمين في الأقطار العربية والإسلامية. وقد أنكر الحاضرون من الأميركيين ذلك كلَّه، لكنهم سجَّلوا ملاحظاتِنا بعنايةٍ، وقالوا إنهم سوف ينظرون في «العقلاني» و«الموضوعي» منها بتأنٍّ في ما بعد، وربما يجري استدراك المُقْنع منها في التقارير اللاحقة!

إنما بغضّ النظر عن حقّ الأميركيين في إجراء مُحاسبةٍ للعالم كُلِّه على أساس قوانينهم، وليس مَثَلا بحسب ميثاق الأُمم المتحدة، أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ فالواقعُ أننا كنا في أشدّ الحاجة لأعمالٍ ومبادراتٍ مُجْدية، بعد إغارات «القاعدة» على الولايات المتحدة، وغيرها من الدول، ونشوب الحرب على الإرهاب. فقد شنّت الولاياتُ المتحدة والدول الأوروبية وروسيا والصين والهند، حروباً وحملاتٍ ضدّ «الإرهابيين» المسلمين، وقسّمت الإسلام إلى معتدلٍ ومتطرفٍ، وخلطت بين الإرهاب، والحقوق الوطنية والقومية والدينية للأقليات الإسلامية في العالم ـ حتّى كاد شارون ينجح في تبرير حملاته للقضاء ليس على المقاومة الفلسطينية وحسْب بل وعلى القضية الفلسطينية ذاتها، فضلا عن التحاق قضايا مثل كشمير والشيشان والأويغور بالإرهاب!

ولذلك انطلقت جهودٌ ومبادراتٌ على مستويين: مستوى المثقفين وجمعيات المجتمع المدني، ومستوى الدول وسياساتها. فقد عمد كثيرون منّا إلى مناقشة أُطروحات صراع الحضارات، ومقولة الخطر الأخضر، ومقولة الإرهاب الإسلامي، ومقولة «اختطاف المتطرفين للإسلام». وقد دُعيَ كثيرون منا إلى الولايات المتحدة أو أوروبا في سياق مبادراتٍ لحوار الأديان أو تحالُف وائتلاف الحضارات. وكنا نعرفُ أنّ الحضارات لا تتحالف ولا تتصارع ولا تتحاور؛ وإنما تتصارع وتتحالف وتتحاوَرُ الدولُ والأُمَم. أمّا الحضارات (والتي تتضمن الأديان أو تتضمنها الأديان)، فلا حديثَ حقيقيا عن تحاوُرها أو صراعها، وإنما عن العلاقات فيما بينها في المَدَيات المتطاولة. لكنْ كما سبق القول؛ فإن كثيرين منا تجاهلوا الجانب النقديَّ للمفاهيم، وخاضوا نقاشاتٍ كثيفةً لتصحيح النظرة عن الذات وعن الإسلام.

وفي الوقت نفسِه، بادرتْ دولٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ، كانت ولا تزال تتعرض للهجمات أو التحديات في دينها وثقافتها واستقرارها، لعقد مؤتمراتٍ على أرضها أو في الخارج الأوروبي والأميركي والروسي والياباني والصيني، وللهدف نفسه: تغيير النظرة إلى دينها وثقافتها وإنسانها، والتنبيه إلى أنّ «الإرهاب» له أسبابه المعقولة وغير المعقولة، لكنّ الإسلامَ ليس جزءًا منها، كما ذكر أوباما نفسه مراراً في هذا العام. ولا شكَّ أنّ مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز التي كانت تقصد إلى تغيير النظرة السوداوية والمتحيّزة، وفك الحصار، وإعادة العلاقات بيننا وبين العالَم إلى سَويتها؛ أسهمتْ إسهاماً بارزاً في التحوُّل الذي يحدُثُ منذ العام 2007. وما اقتصرت المبادرة على المؤتمر الذي انعقد بالأُمم المتحدة كما ذكر تقرير وزارة الخارجية الأميركية؛ بل كانت حركةً زاخرةً في اتجاهاتٍ شتّى. كانت هناك زيارة الملك للبابا، ثم الإعلان عن الدعوة لحوار الأديان والثقافات، ثم مؤتمر مكة وبيانه، ثم المؤتمر الكبير بمدريد وبيانه؛ فالمؤتمر الذي انعقد في رحاب الأُمَم المتحدة. وفي حين أقبلت بلدانٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ على استضافة مؤتمرات وإصدار بيانات تنحو في المنحى نفسه؛ فإنّ رئيس الوزراء التركي أردوغان عمد إلى «عقد» اتفاقٍ مع رئيس الوزراء الأسباني، على إقامة ما سمياه تحالف الحضارات أو ائتلافها. وقد انعقد للتحالفُ المذكور مؤتمران حتى الآن أحدهما بمدريد والآخر باسطنبول. وفي ثانيهما كانت كلمة الرئيس أوباما الأولى الموجَّهة للمسلمين. وهو عندما أراد بعدها التوجُّه للقاهرة، ذهب إلى السعودية أولاً، وتحدث إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز، باعتباره الزعيم العربيَّ الأول، والرائد للحوار والانفتاح بين المسلمين والولايات المتحدة والغرب.

ولنعُدْ إلى تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن الحريات الدينية. إنّ ما ورد فيه يبقى ذا دلالة على تغييرٍ واضحٍ في السياسة الأميركية تجاه العرب وتجاه المسلمين. كانوا غاضبين فلم يذكروا غير السيئات، ورضوا فذكروا الحسنات:

فعينُ الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ

ولكنّ عين السُخْط تُبدي المَساويا