العرب والمواجهة الكبرى

TT

يخطئ من يظن أن المواجهة الكبرى للعرب هي فقط مع الخارج. المواجهة ينبغي أن تكون أيضا مع الداخل لأن الخلل العميق موجود هناك. وبناء على تصحيحه يمكن أن ننجح يوما ما في المواجهة الخارجية وفي التنمية والبناء والعمران والانطلاق وكل شيء. فمن لا ينتصر على نفسه لا يمكن أن ينتصر على الآخرين. ويخيل إلي أن العالم العربي يعيش الآن نفس المرحلة التاريخية التي كانت تعيشها أوروبا على مفترق الحزّ الفاصل بين العصور الوسطى والعصور الحديثة. فالانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية التي يعاني منها والتي تندلع على شكل حروب أهلية مروعة هنا أو هناك تمنع تشكيل المجتمعات المدنية المتماسكة، وكذلك المواطنية بالمعنى الحديث الذي يتجاوز هذه الانقسامات بالذات ويستوعب الجميع.

كانت الحركات الايديولوجية في الخمسينات والستينات كالبعث والناصرية والماركسية قد أوهمتنا بإمكانية حل هذه المشاكل التاريخية عن طريق القفز عليها وعدم مواجهتها وجها لوجه لكيلا تستيقظ العصبيات القديمة وتنفجر وتحرق الأخضر واليابس. ولكن هذه المنهجية الساذجة الحسنة النية بدون شك أثبتت فشلها الذريع وأدت إلى عكس النتيجة. فها هي المشاكل العرقية والطائفية تنفجر بعنف أشد بعد عقود من الفكر التقدمي والقومي واليساري السطحي الهش واللامسؤول. ها هي تنفجر في وجوهنا كالقنابل الموقوتة بعد طول كبت واحتقان. وها هي الايديولوجيات التقدمية تنحسر عن الساحة لكي تحل محلها الايديولوجيات الطائفية والمذهبية. ها هو الحديث يبدو قديما باليا، والقديم يبدو جديدا لامعا! وها هم المثقفون العرب يندبون ويولولون قائلين: يا إلهي لماذا عدنا إلى الوراء؟ والواقع هو أننا لم نعد إلى الوراء وإنما «الوراء» هو الذي عاد إلينا لأننا لم نتجرأ في أي يوم من الأيام على مساءلته أو مناقشته ناهيك عن نقده وتفكيكه وتجاوزه. لذلك أقول بأن المحنة التي يعيشها العالم العربي ومن ورائه العالم الإسلامي ككل سوف تطول. إنها أمامنا لا خلفنا. وسوف تظل رازحة تقلق وجودنا ما لم نتجرأ على طرح السؤال الأول عليها.

من أين جاءت هذه الانقسامات الطائفية التي تمزق وحدتنا الوطنية وتمنع التعايش السلمي بيننا؟ كيف تجاوزتها الأمم الحضارية المتمدنة؟ من أين جاءت هذه التصورات المتعصبة التي تسيطر على وعي جماهيرنا بل وحتى مثقفينا أحيانا؟ لماذا نستمر في تأبيدها من خلال برامج تعليم ببغاوية مهترئة عفى عليها الزمن؟ فالقدماء على الرغم من أهميتهم وعظمتهم، إلا أنهم بشر مثلنا يخطئون ويصيبون، لهم عصرهم ولنا عصرنا. لقد آن الأوان لنفض الغبار عن تراثنا المجيد وقراءته من جديد على ضوء أحدث المناهج العلمية والفلسفية. وعندئذ نغربله غربلة شاملة فنحتفظ بالعناصر الصالحة وهي كثيرة ونطرح ما تبقى من قشور متكلسة ومتحنطة. نطرح كل ما يتناقض مع العلم والعقل ويدعو إلى كره الآخر واحتقار عقيدته وكرامته الإنسانية. وعلى هذا النحو يحصل حوار الأديان والثقافات والحضارات والتعايش بين الأمم والقبائل والشعوب كما يدعونا إلى ذلك القرآن الكريم. وعلى هذا النحو تستعيد أمتنا مكانتها ومصداقيتها بين الأمم. لقد آن الأوان لإيجاد صيغة جديدة للمصالحة بين الإيمان والعلم، أو بين تراثنا الإسلامي العظيم والعقل، كما فعل المأمون وكبار فلاسفتنا في العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية. فالعلم والإيمان لا يمكن أن يكونا خصمين إلا في النفوس المريضة، كما صرح بذلك خادم الحرمين الشريفين مؤخرا أثناء افتتاحه لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية.

إذا لم ننخرط في هذه الحركة التجديدية الهائلة فإني أقول لكم بأننا لن نخرج من ورطتنا طيلة ألف سنة قادمة! الأمم كلها تسبقنا ونحن لا نزال نتخبط في الشكليات والتوافه. الفكر العربي أصبح أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يتجرأ، وللمرة الأولى في تاريخه، على مراجعة هذه المقولات القروسطية العدوانية والبرامج التعليمية المتزمتة التي تثقل كاهله وتجعل العالم كله يكرهنا، وإما أن يبقى خاضعا لها ومتعلقا بها إلى حد الوله والاستلاب والانقطاع عن حركة الحداثة والعلم والعصر. وعندئذ لا حل ولا خلاص. إن تفكيك هذه التراكمات التراثية التي تشل حركتنا وتؤخر انطلاقتنا سوف يكون موضوع كتابي المقبل الذي سيصدر عن رابطة العقلانيين العرب تحت عنوان: «الإسلام والانغلاق اللاهوتي: زمن التفكيك».