زكي نجيب: نقطة تحول!

TT

بسبب لا يعرفه زملائي كنت أحرص على أن أرى أمهاتهم. وأن أصافحهن. لقد كنت أعتقد في ذلك الوقت أن هناك نوعين من الأمهات: أمهات مريضات، وأمهات في صحة جيدة. وكانت دهشتي لا نهائية عندما أجد أمهات زملائي في صحة جيدة. ولماذا أنا وحدي يا ربي الذي رزقته أما مريضة وأبا مريضا وكان لهما ولد شديد الحساسية لا تجف دموعه ليلا ونهارا عليهما وعلى نفسه. ولا ينام وحده في غرفة. ويذاكر وحده في غرفة. وبيته ضيق حتى لا يتسع للدفء الذي في بيوت الناس!

أما في بيتنا فزجاجات الأدوية. وحقن ومراهم. في كل مكان. حتى قلت عن نفسي: إنني ولدت ومرارة الدواء في فمي. وفي حياتي..

ولم أكن أقول لأحد مثل هذه المعاني. فأنا لا أحب أن أثير شفقة أحد وإنما أن أثير إعجابه فقط. ولا أعذّب أمي ولا أرفع صوتي عليها. ولا أغلق الباب في وجهها.

وفي إحدى المكتبات وجدت كتابا عنوانه (قصة الفلسفة اليونانية) و(قصة الفلسفة الحديثة) من تأليف أحمد أمين وزكي نجيب محمود.. وفي مرحلة متأخرة عرفت أن الكتابين مأخوذان عن كتاب للكاتب الأميركي ول ديورانت.. وفي مرحلة متأخرة قال لي زكي نجيب محمود إنه وضع اسم أحمد أمين على الكتاب مع أنه لم يكتب سطرا واحدا. والسبب أن أحمد أمين هو الناشر. وإذا لم يظهر اسمه فلن يظهر الكتاب.

وهذا الكتاب بأسلوب زكي نجيب محمود، سحرني وبهرني ليلا ونهارا. ما هذه العبارة الجميلة. ما هذا الأداء السهل. ما هذا العرض للفلسفة اليونانية. لم نسمع بشيء من ذلك. فالذي تعلمناه في المدرسة لا قيمة له. هذه هي الكتب. وهذه الفلسفة الممتعة. الفلسفة البديعة. والذي جعلها كذلك أساتذة من طراز زكي نجيب محمود ولم أتوقف يوما عن قراءة قصة الفلسفة الحديثة واليونانية.

وأنا صغير كنت أتمنى أن أكون مطربا. وكنت أتمنى أن أكون مثل محمد عبد الوهاب. ومن مراجعتي لنفسي تبينت أنني لم أرد أن أكون مطربا. وإنما أن تكون عبارتي سهلة جميلة مثل ألحان عبد الوهاب وهو ينتقل في سهولة وجمال من مقام إلى مقام.. مثل زكي نجيب محمود. هذه هي السهولة والبلاغة والفصاحة والموهبة في تيسير القضايا الفلسفية. بصورة جميلة. ولم تكن كتب الفلسفة كلها بهذا الجمال.. فهناك كتب جافة خشنة تصد النفس عن القراءة.. إلا زكي نجيب محمود.

وطلبت من الله ولا يكثر على الله أن أقتني كتب زكي نجيب محمود واستجاب الله لدعائي.. فصارت عندي مكتبة من سبعين ألف كتاب في الفلسفة والأدب..