الليلة الليلاء

TT

من أسوأ المواقف في الحياة هو أن يرغمك إنسان على شيء أنت لا تريده، فالإنسان في الأمور الحياتية الشخصية يجب أن يكون «مخيّرا» ـ خصوصا إذا كانت تلك الأشياء تهمه هو وحده، وإذا قبلها أو رفضها لا يؤذي بها أحدا.

فمن الظلم أو الجنون مثلا أن يرغم رجل على محبة امرأة لا يطيق رؤيتها، أو يرغم على التهام صنف من الطعام تعافه نفسه، أو يرغم على المكوث والاستقرار في بلدة تجلب له الكآبة، أو يرغم على مصادقة رجل شرير خارج لتوه من السجون، أو العكس أيضا ـ أي مصادقة رجل ناعم متغنج مشبوه ـ وغير ذلك من الأمور البديهية التي لا تبتعد عن ذهن الفطين.

وقبل أيام دعيت مع من دعي إلى وليمة عشاء في منزل رجل لا أحبه ولا أكرهه ـ أي أن شعوري تجاهه محايد جدا ـ، والواقع أن «عقلي الباطن» جعلني أتردد في قبول الدعوة من أساسها لأنني كنت على يقين أن ليس فيها ما يثير، ولكن تحت إلحاح أحدهم قبلت ذلك وذهبت، ويا ليت قدمي انكسرت ولم أذهب.

كنت طوال جلوسي أنظر في الساعة خوفا من أن يتأخر وقت الأكل، ليس بسبب جوعي، ولكن بسبب حرصي على الخروج مبكرا نظرا لأنني أريد أن ألحق بأحد الأصدقاء قبل أن يذهب للمطار، لأنه سوف يسافر للخارج، وهناك موضوع عمل مشترك معه ولا بد من لقائه.

واضطررت أن ألح على المضيف بتقديم وقت الأكل، ورضخ لمطلبي بعد أن هددت بالانسحاب إذا لم يحصل ذلك.

وتعشينا، وكنت أسرع الحاضرين أكلا، وأولهم انتهاء، وذهبت على عجل للمغسلة، وصحت بالمضيف قبل أن أخرج قائلا: أنعم الله عليك وكثر خيرك.

وما أن وصلت إلى طرف المجلس لألبس حذائي، حتى فاجأني هو بهجومه علي وفي يده زجاجة عطر كبيرة وأخذ يسكبها على شماغي وملابسي ووجهي زيادة منه في الإكرام، وعندما حاولت تحاشيها بيدي الاثنتين سكب العطر عليهما، كل هذا كان يجري وأنا أتوسل إليه أن يتوقف عن سكب هذا العطر «الشنيع» عليّ. حاولت بشتى الوسائل أن أهرب، غير أن حذائي التعيس لم يكتمل دخوله في قدمي، فصرت كالمعتوه أتخبط في أرجاء المجلس وهو لا يزال يلاحقني بإصرار عجيب، ولا أستبعد أن أهل بيته اعتقدوا أن هناك «خناقة» ما قد حصلت، من ارتفاع صراخي الذي وصل إلى الشارع، والدليل على ذلك أن طفله الذي لا يزيد عمره عن سبعة أعوام دخل علينا راكضا ليستطلع الخبر والخوف يملأ عينيه.

وما صدقت على الله أن ألزم الباب وأخرج، شاتما كل من على وجه هذه الأرض بأقذع الشتائم، كان ذلك العطر قويا وثقيلا ومدهنا، والمصيبة أنني اكتشفت فيما بعد أنه عطر «نسائي»، وأن ذلك الغبي كان يلاحقني به وكأنه يريد أن يصرع بعوضة بعلبة «فليت»، ركبت سيارتي واضطررت أن أفتح الشبابيك الأربعة عل وعسى أن تيار الهواء يخفف من «الريحة»، وعندما وصلت إلى منزل الرجل الذي أريده علمت أنه قد ذهب إلى المطار، فسارعت إلى هناك للحاق به، ولكنني عندما دخلت صالات الركاب في المطار، «فعيونكم ما تشوف إلا النور»، فقد استدارت الرؤوس لتعرف مصدر هذه العطور النفاذة، وكلما مررت على أناس وقوف أو جلوس استغربوا وتضاحكوا ولسان حالهم يقول ما هذا الرجل «الرقيع» الذي يتمخطر ويوزع روائحه على الجميع.

وفوق ذلك كله فالرجل الذي تحملت كل هذا العناء، وكل هذه الفضيحة من أجله، لم أصل إليه لأنه دخل الطائرة، ورجعت كما جئت «أهفهف» بالروائح، ونظرات الناس وتهكماتهم تلاحقني، والعرق من شدة الخجل يتصبب من وجهي.

«وفوق الفوق» أيضا، لم أسلم من المساءلة والشكوك من أهل بيتي، عن سبب هذه العطور النسائية الرديئة!! وكانت «ليلة ليلاء» لا أستطيع أن أحكيها لكم.