كؤوس القلق!

TT

حينما دخل المذياع بيتنا ذات يوم من عقد الخمسينات، أفرد له أبي صدر المجلس، وظلت والدتي تكسوه كما تكسونا كل عيد برداء جديد، وغالبا ما يكون رداء المذياع من قماش نسائي فاخر، منثور بقطع معدنية صغيرة براقة، وكان المذياع كبير الحجم، ويعمل بالبطاريات السائلة التي يفترض إعادة شحنها كل يومين، وفرض علينا ذلك صناعة عربة خشبية صغيرة لنقل البطارية من البيت إلى حيث تشحن وإعادتها، والقيام بذلك اعتبر جزءا من مسؤوليتي، وأفاد المذياع والدي الأمي ـ رحمه الله ـ في تشكيل ثقافة سمعية من كثرة ارتباطه بذلك المذياع، ونمت لديه مع الزمن ثقة في إحدى الإذاعات، فلم يعد يثق في غيرها، وأية أخبار تصدر عن عداها، فهي في نظره مغلوطة، مدسوسة، ومغرضة، وحينما نشبت حرب السويس التصق والدي بالمذياع، وبعد كل جملة وأخرى يتفوه بها المذيع، يقوم أبي ببعض الحركات العصبية قبل أن يستغرق في تفكير عميق، وكنت أراقبه باستغراب وأنا غير مدرك لما يصبه ذلك المذياع من كؤوس القلق على مسامع أبي، فالحروب وويلاتها لم تكن لتدخل في اهتماماتي الطفولية آنذاك.

الناس اليوم بعد مرور أكثر من خمسة عقود، لم يبتعد جلهم عن الأسلوب الذي اتبعه أبي، والمتمثل في أحادية المصدر الإخباري، فلكل واحد قناته، أو إذاعته، أو صحيفته، التي يمنحها ثقته، ويخلع عليها سمة المصداقية، ومن هؤلاء صديقي الذي يقرأ ما لا يقل عن عشر صحف، ويطالع الكثير من المواقع الإخبارية، ويستمع إلى العديد من نشرات الأخبار، ومع هذا فهو حينما يريد أن يستشهد على صحة خبر ما، يكتفي بالقول بأن قناة «......» قد أوردته في نشراتها.

اليوم تتنافس وسائل الإعلام الواعية على الوصول إلى هذه المكانة، أو بعبارة أخرى، فإنها تسعى إلى تكوين المتلقي الدائم، أو المقيم الذي ينتظم معها باستمرارية، عكس بعض وسائل الإعلام التي تعتمد على ما يسمى الخبطات الإعلامية المتقطعة، وكبريات الصحف والإذاعات المرئية والمسموعة في العالم تضع خططها المستقبلية على متابعها الدائم، وليس المتابع العابر، أو الطارئ، أو الفضولي، وإن كانت البراعة المهنية تتمثل في القدرة على تحويل المتابعين الطارئين إلى متابعين دائمين.

ويبقى السؤال: هل للثقة في المصدر الإخباري الواحد، في عالم يعج بالمصادر الإخبارية المتنوعة علاقة سيكولوجية بتكويننا النفسي الذي يتسم بأحادية الرأي والرؤية تجاه الكثير من القضايا؟

[email protected]