.. تلك أيام العار!

TT

يوم العار.. لا ذنب لي. وكان الامتحان. وجلست أبكي في اللجنة وسألني مراقب الامتحانات: مالك يا ابني؟ لم أرد. وعاد وسألني. وقال له زملائي: يا أستاذ إنه أول المدرسة. ما المشكلة؟ المشكلة أن جاء سؤال في الامتحان يقول ارسم زجاجة كولونيا. وبكيت لأنني لم أر في حياتي زجاجة كولونيا وإنما كلها زجاجات أدوية. هذا للسعال.. وهذا للمعدة.. وهذه للصدر.. وهذه للحساسية. وألوانها سوداء وبنية وزرقاء.. مستطيلة ومربعة ومستديرة. صغيرة وكبيرة.

وتذكرت يوما آخر حدث من سنوات: فقد ضحك التلامذة ودارت بي الأرض. فمدرس الجغرافيا قال إن سكان الحبشة لونهم ليس أسود ولا أسمر وإنما هم في لون الكاكاو. ورفعت يدي أسأل: يعني إيه كاكاو؟!

وضحك الفصل. ولم أكن أعرف معنى الكاكاو والشيكولاته. لا أعرف. لم أر. لم أذق. في ذلك اليوم أخفيت كسوفي في دموعي!

لا نسيت يوم الكاكاو ولا نسيت يوم الكولونيا. وظللت أتوجع من هذه الذكريات طويلا. ولا أحد يعرف لماذا أطلب في عيد ميلادي زجاجة كولونيا حتى صارت عندي العشرات، ومن يدخل مكتبي يجد ورائي عشر زجاجات كولونيا، ويندهش، ولكن الطفل في أعماقي لا يزال غاضبا لدرجة أنه لم يعد يرى من كل الزجاجات إلا الكولونيا. أما الكاكاو والشيكولاته فلم أذقهما منذ ذلك اليوم. ورغم أنني زرت بلاد الشيكولاته مرات كثيرة بعد ذلك فقد امتنعت عن تناولها بدعوى الحساسية ونصائح الأطباء!

ويوم آخر لا أنساه: يوم صرخ زميلي في المدرسة في وجه أمه وأغلق الباب ولا أعرف بالضبط ماذا قال وماذا فعل بعد ذلك. حتى أصابني بالمصران العصبي.. حتى اليوم. فكأنه أقفل الباب على مصراني.. ولا يزال الباب مغلقا ولا يزال مصراني يوجعني. ولما وجدت أستاذنا العقاد يضع يده على بطنه طول الوقت بسبب المصران شعرت بشيء من الراحة. واسترحت أكثر عندما عرفت أن المصران العصبي هو مرض المثقفين والفلاسفة. إذن لقد انحشرت في زمرتهم من زمن طويل..

أكذب لو قلت إن أحداث الطفولة هذه قد انتهت. لم تنته ولم تمت. ويبدو أنها لن تموت!