ليبق (الحج): أعلى وأغلى وأطهر من (الاستغلال السياسي)

TT

في عالم الواقع من المتعذر جدا: ألا يقع خلاف بين الدول.. فالواقع يقول: إن هناك اختلافا في الرؤى والاستراتيجيات والإرادات بين الدول في عالمنا هذا، وإلا لأصبح العالم كله (دولة واحدة)!.. والدول الإسلامية لا تُستثنى من هذا الحكم (الواقعي): مهما ارتفع رنين الشعارات حول وحدة المسلمين أو الأمة الإسلامية الواحدة. ومن هنا نقول: إنه لشيء طبيعي أن ينشأ خلاف بين السعودية وإيران حول عدد من القضايا والاستراتيجيات.

ومهما تكن سعة الاختلاف ودرجته ومداه الزمني ـ في الحاضر والمستقبل ـ فإن (الحج) يتوجب أن يكون أعلى من كل خلاف، وفوق كل نزاع، وأبعد عن كل استغلال سياسي أو أيدلوجي، وأطهر من كل غرض دنيوي دعائي. ومن المحزن ـ لكل مسلم في العالم ـ أن يرى الطرف الإيراني يزج بـ(الحج) في المعترك السياسي، كلما وقع خلاف مع المملكة العربية السعودية.. ولقد حدث ذلك بُعيد قيام الثورة في إيران، إذ استغل النظام الإيراني مواسم الحج لتحقيق أغراض سياسية ودعائية.. ومن الأدلة الحاسمة على هذا الاستغلال السياسي المغرض لـ(الحج): أن النظام الإيراني امتنع عن هذا الاستغلال في فترات (الهدوء السياسي) الذي تخلل العلاقة بين البلدين.. إن هذا الهدوء يؤكد حقيقة أنه كلما (زعلت) إيران من السعودية - لهذا الأمر أو ذاك ـ عمدت إلى (تسييس الحج) تحت شعارات كيدية ـ أكثر منها دينية أو عقدية ـ مثل (إعلان البراءة من المشركين) وهي براءة توجب ـ بمقياس الصدق العقدي ـ أن يتبرأ النظام الإيراني من كل علاقة (شركية) تربطه بغير المسلمين، سواء كانوا غربيين أو غير غربيين، على حين أن إيران لا تزال تعزز علاقاتها المختلفة مع من تدعو ـ في مواسم الحج ـ إلى البراءة منهم!

ومنذ قليل ـ بدأت وسائل إعلام إيرانية تجدد (مأساة) الزج بالحج في النزاعات السياسية.. ولم نكترث لذلك.. ولكن عندما تكلم في الموضوع الرئيس أحمدي نجاد، وآية الله خامنئي (الرأس الديني السياسي للنظام الإيراني)، وجب (النهي عن المنكر) ـ الديني والفكري والسياسي ـ وذلك بمقتضى الحقائق والاعتبارات والمحاذير التالية:

أولا: إن (الحج) هو الركن الخامس من أركان الإسلام الخمسة العظمى، فهو فريضة محكمة على كل مسلم مستطيع (لفظ مسلم يشمل المرأة والرجل).. واللعب أو العبث بالفروض الدينية محرم حرمة قطعية لا تحتمل التأويل.

ثانيا: إن الله قدر وقضى وشرع: أن يكون الحج في مكة المكرمة وحدها ـ قولا قطعيا واحدا ـ ومن ثم فإن البلد المفتوح لكل مسلم ـ بالنص الديني ـ هو السعودية، حيث أنه لا يمكن الوصول إلى مكة والحج إلا من خلالها: ((وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)). وإنما تتكون (الاستجابة) للأذان بالحج من مراحل ثلاث: مرحلة تبييت النية في الضمير.. ومرحلة الاستعداد للسفر.. ومرحلة مباشرة المناسك.

وهاهنا ـ في مباشرة المناسك ـ تتبدى مسؤولية المملكة العربية السعودية في (التطبيق العملي) للأذان بالحج.. تتبدى هذه المسؤولية في تطهير البيت الحرام للطائفين والقائمين والركع السجود، فاستجابة المؤمنين لنداء الخليل ـ عليه السلام ـ مشروطة بالطهارة المعنوية المتمثلة في التوحيد الخالص من كل ما لا يليق بالطواف والسعي والصلاة.. وتتبدى هذه المسؤولية في تهيئة المواقيت المكانية التي يهل منها الحجيج ويدخلون في الإحرام.. وتتبدى هذه المسؤولية في (الميقات الزماني) للوقوف بعرفة، و(الحج عرفة) ـ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ فالأذان بالحج مشروط ـ في كل عام ـ بإعلان سعودي رسمي بأن يوم كذا هو يوم الوقوف بعرفة. ولذلك أوجب العلماء على من يتولى ولاية الحرم والحج ما يلي: ((إشعار الناس بوقت إحرامهم والخروج من مشاعرهم ليكونوا له متبعين، وبأفعاله مقتدين))، أي ولي أمر الحج.. وتتبدى هذه المسؤولية في (تأمين الطريق) إلى المناسك ـ جيئة وذهوبا -، إذ كيف يمكن أن يستجيب لأذان الخليل بالحج: من لا يأمن الطريق إلى المناسك ؟!.. وتتبدى هذه المسؤولية في (تأمين أداء المناسك)، فبعد مهمة تأمين الطريق إلى المناسك تأتي مهمة توفير أمن أداء المناسك، وكأن التأمين الأول هو ـ على أهميته ـ وسيلة للتأمين الثاني.

ثالثا: مهما قيل عن أخطاء السعوديين (وهي كثيرة ومتعددة كأي مجتمع بشري غير معصوم وغير ملائكي)، فإن الاتفاق منعقد على (متانة ورقي) الخدمة المتنوعة والمثابرة والمتصاعدة التي تقدمها الحكومة السعودية للحرمين الشريفين، وهي خدمة تنطق بها الميزانيات الضخمة، كما ينطق به العمران القوي والواسع والجميل للحرمين وما حولهما.. يقول الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي: ((إن إيران تلمس بوضوح حركة الحكومة السعودية الواعية والمنظمة وحسن نيتها المشهودة في سياستها الداعية إلى التفاهم بين المسلمين، وقادة المملكة يتحملون مسؤوليات جساما في موسم الحج ونحن نعرف تماما أن الحكومة السعودية حريصة على بذل كافة مساعيها المخلصة من أجل القيام بهذا الواجب الكبير)).. وهذا مثل ـ فحسب ـ من اتفاق مسلمي العالم على روعة وصِدقيّة الخدمات التي تقدمها السعودية للحرمين الشريفين، وللحجاج والعمار والزوار.. ولسنا في سياق المن والتباهي. فخدمة مقدسات الإسلام هي ـ في المقام الأول ـ قربى إلى الله جل ثناؤه، وإنما تفسد القربى بالمن والتباهي.. ثم نحن نعتقد أنه ببركة هذه الخدمة: دَفَع الله عن السعودية بلايا وشرورا كثيرة، وما يُدفع به البلاء والشر لا يُستجلب به بلاء المن والزهو.. لسنا في هذا السياق ـ قطعا ـ وإنما نحن في سياق تسجيل حقيقة دينية حضارية شهد بسطوعها المسلمون كافة بمن فيهم عقلاء إيران مثل محمد خاتمي: حقيقة: أن الحرمين الشريفين في (أيد أمينة)، وأن خدمتها وخدمة الحج فوق الشبهات والأراجيف.

رابعا: أن الحج شعيرة مفروضة ينبغي أن تؤدى في هدوء وسكينة وسلام.. مثلا. في سياق الحديث عن الحج ـ في سورة الحج ـ نقرأ قول الله تعالى ((وبشر المخبتين)).. ومن معاني الإخبات: الطمأنينة والهدوء والسكينة والخشوع.. ومما يتعارض مع هذا الجو الروحاني الراقي: تلويثه بالصخب ـ من أي نوع -. وبكل شعار يزاحم ذكر الله وتمجيده تقدس في علاه، فكيف بشعارات سياسية دعائية تعصف بأجواء السكينة والهدوء والخشوع؟!

خامسا: يتوجب احترام مشاعر المسلمين وهم مباشرون لمناسك الحج. فمن المسلمين من يمكث عمره كله ـ تقريبا ـ يدخر مالا لأداء فريضة الحج.. هذا المسلم لماذا لا يُعان على أداء فريضته المحببة إليه، والمتلهف عليها.. لماذا لا يُعان على أدائها في مناخ هادئ طيب ساكن رضيّ: لا يشوش عليه هتاف نشاز، ولا شعار مبدد للطمأنينة والخشوع؟.. إن الشقاق أرهق أعصاب الأمة، فلماذا لا يكون الحج (فرصة راحة عميقة) يسعد بها الذين أنهكهم الخلف الشحناء في بلادهم أو بين بلد مسلم وآخر؟

سادسا: يرددون مفردة التعسف مع (أتباع أهل البيت).. فلماذا هذا الاحتكار الغريب والتمييز العجيب؟.. على حين أننا (كلنا) أتباع أهل البيت، سواء أخذنا بتعريف أنهم هم الذين (تحرم) عليهم الصدقة، أو أنهم هم (أهل الكساء)، فعلى التعريفين، فإن أهل البيت هؤلاء هم سادتنا وأئمتنا وتاج رؤوسنا ونحن أتباعهم بحمد الله.. أتريدون برهانا مبينا من (الحج) ذاته؟.. هذا هو البرهان.. إن أهل السنة يحجون بموجب حديث (حجة النبي) المشهور، والذي رواه الإمام مسلم في صحيحه.. فمن هو راوي هذا الحديث؟ هو: جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين عن أبيه (أي محمد الباقر) إذ طلب الباقر من الصحابي الجليل جابر بن عبد الله أن يصف له حجة النبي صلى الله عليه وسلم فطفق جابر يصفها له بالتفصيل، وهذه الحَجّة ـ التي رواها أحد أئمة أهل البيت ـ هي العمدة في نسك أهل السنة. فآل البيت ـ من ثم ـ أئمة أهل السنة.. وأهل السنة أتباعهم.

ثم نختم المقال بنصيحة صادقة إلى الإيرانيين وهي: أن اعقلوا.. اعقلوا.. ومن موجبات العقل ألا تشوهوا صورتكم بأيديكم أمام الرأي العام الإسلامي، وإلا انصب عليكم من الغضب والسخط ما ينصب على الذين يعبثون بالمسجد الأقصى (شقيق المسجد الحرام).. اعقلوا واحذروا من تسليح العدو الصهيوني بحجة محرجة وساخرة وهي قوله: يلومنا المسلمون على انتهاك حرمة المسجد الأقصى، وهاهم مسلمون ينتهكون حرمة المسجد الحرام!!.. احذروا هذه الفتنة، متدبرين قول الله تعالى: ((ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا)).