لعنة التطبيع.. وتساؤلات «المثقف المصري الفصيح»

TT

لم يحدث في تاريخ مصر الجمهورية أن لقيت واقعة ذات طابع ثقافي ما لقيَتْه من اهتمام على صفحات الصحافة المصرية واقعة إخفاق وزير الثقافة الفنان التشكيلي فاروق حسني بمنصب المدير العام لمنظمة «اليونيسكو» ومقرها باريس. وتفاديا للجزم بأن التعامل مع هذه الواقعة يحدث للمرة الأولى، نشير إلى واقعة ذات طابع محلي بمعنى أنها اقتصرت على مصر وتتمثل في كُتيِّب أصدره الروائي المخضرم توفيق الحكيم وبتسمية «عودة الوعي»، وكان عبارة عن رؤية لتداعيات هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967، حيث انقسم أهل الفكر والثقافة في شأن هذا الكُتيّب الذي كان مضمونه على درجة من المرارة تجاه الهزيمة ودعوة إلى القيادة من أجل اعتماد الوعي لانتشال المواطن من آثار الصدمة التي أصابته. وقد دام الأخذ والرد في شأن «عودة الوعي» إلى ما بعد حرب الثأر من الهزيمة (6 أكتوبر 1973) وما بعد رحيل الكاتب الكبير الذي كان «عودة الوعي» ختام عمره الفكري الثقافي والروائي المقل نسبيا لكنه من النوع الذي وضع توفيق الحكيم في قائمة كبار المبدعين في المشهد الثقافي، فضلا عن أنه كان كما نجيب محفوظ زميله في «الأهرام» الهيكلي (أي في عهد الأستاذ محمد حسنين هيكل) يحلم بلحظة نيْله جائزة «نوبل» لكن الاختيار وقع على صاحب الثلاثية الشهيرة وليس على صاحب «الرباط المقدس» و«يوميات نائب في الأرياف».

بداية الواقعة حدثت عندما قرر الرئيس حسني مبارك أن يكون وزير الثقافة الذي هو أحد وزراء قليلين مصنَّفين بأنهم «وزراء الرئيس»، مرشَّح مصر لمنصب المدير العام لمنظمة اليونيسكو خلفا للياباني كوتشيرا الذي سبق أن خطف المنصب من مرشح عربي كامل المواصفات (الدكتور غازي القصيبي) عام 1999. وبدل أن ينتقل الدكتور غازي من لندن، حيث كان يشغل منصب السفير لدى المملكة المتحدة فإنه بعدما لم يفز بالمنصب الذي يستحقه انتقل إلى الرياض وزيرا يتحلى بدينامية ملحوظة وقدرة استشارية سياسية تتلازم أحيانا مع القدرات الشِعرية والكتابية.

أراد فاروق حسني أن يكون مختلفا، ومن قبل أن تبدأ الجولات الانتخابية في مقر المنظمة في باريس مساء الخميس 17 ـ 9 ـ 2009 وهي جولات شبيهة بتلك التي تجري في حاضرة الفاتيكان لانتخاب رئيس جديد للكنيسة الكاثوليكية، مع فارق أن هذا يُنتخب خلفا للبابا الذي توفي بينما يتم انتخاب مدير جديد لليونيسكو خلفا للمدير المنصرف بعد انتهاء ولايته المنصوص عليها في نظام المؤسسة. ومن مظاهر الاختلاف أنه لكي يمثل الأمة بجناحيها التطبيعي المنتسب إليه بحكم كونه وزيرا للثقافة في مصر التي أبرمت اتفاق سلام مع إسرائيل والجناح غير التطبيعي الذي هو أكثرية الدول العربية، فإنه في إحدى جلسات «مجلس الشعب» أي البرلمان قال ما معناه إنه إذا كانت هنالك كتب باللغة العبرية موجودة في مكتبة الإسكندرية التي يرجع الفضل في إحيائها وتطويرها إلى السيدة سوزان زوجة الرئيس مبارك، فإنه سيطلب إحراق هذه الكتب. وحيث إن مجرد كلمة الإحراق أو الحريق تجعل إسرائيل تستحضر «المحرقة»، التي طالما أثار عواصف حولها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، فإن الدوائر الإسرائيلية ومعها الجماعات المتصهينة الفرنسية والأوروبية عموما اعتبرت فاروق حسني معاديا للسامية وأن مثل هذه الصفة تحجب عنه فرصة أن يكون المدير العام لمنظمة اليونيسكو. وهنا وجد نفسه وتحت تأثير «لوبي» مجموعة من رجال الأعمال المصريين الذين ازدهرت تجارتهم في ظل مرحلة ما بعد إبرام اتفاق السلام مع إسرائيل يأخذ بالوجه الآخر من الاختلاف فيوصي بطبع كتب مترجمة عن العبرية وترميم آثار يهودية في مصر (من بينها معبد موسى بن ميمون) ويدعو المايسترو الإسرائيلي دانيال بارنبويم إلى مصر ويؤجج نار الحساسية مع الإسلاميين. لكن هذا الاختلاف لم يعطِ النتيجة المرجوة، ذلك أن الصراعات داخل كواليس المنظمة بدأت تتحدث عن الإمكانات الفكرية والثقافية واللغوية للوزير فاروق حسني. تارة يقولون إنه غير ملم بلغات أجنبية. وأحيانا يتحدثون عن أن تاريخه كملحق ثقافي في باريس في السبعينيات ثم مدير للأكاديمية المصرية في روما لا يؤهله للمنصب الثقافي الأول. لكن هؤلاء يغفلون إنجازاته على الصعيد المحلي (متاحف وترجمات وترميمات ومعارض فنية له؛ حيث إنه من التشكيليين، ولرسامين مصريين آخرين).

من أجل أن يفوز بالمنصب كان لا بد من حصوله على ثلاثين صوتا من أصل مجموع 58 عدد المقترعين. وفي الدورة الأولى للاقتراع مساء الخميس 17 ـ 9 ـ 2009 كان بينه وبين الفوز ثمانية أصوات نالتها ايرينا بوكوفا مرشحة بلغاريا المنافِسة الأساسية له. هنا بدأ الصراع يحتدم. وبات واضحا أن المعركة ستنحصر بين الاثنين. كذلك بات واضحا انبعاث العصبية الأوروبية لأن الرئيس ساركوزي الذي كان وعد الرئيس مبارك بتأييد فاروق حسني أخلف الوعد. وهذا يتناقض مع «مانشيت» الصفحة الأولى من «الأهرام» يوم السبت 19 ـ 9 ـ 2009 المتضمن عبارة «فرنسا غير مستعدة للتضحية بعلاقتها مع مصر».

في نهاية المطاف نجح التسييس في أمر ثقافي وتبيّن أن فرنسا مستعدة وأن المتوسطية المصرية لا تتقدم على العصبية الأوروبية وأن وزيرة الخارجية السابقة لبلغاريا ايرينا فازت بعد خمس دورات اقتراع بالأصوات الأربعة القاضية على فرصة فوز فاروق حسني بالمنصب الثقافي الدولي. لكن حصول فاروق حسني على 27 صوتا مقابل 31 لمنافسته، من أصل الأعضاء الـ58 الذين لهم حق الاقتراع، في معركة خاض غمارها ثمانية مرشحين، يشكل حالة اختبار بأن التطبيع لعنة في حد ذاته ولا يشكل مكافأة لمصر من أجل الفوز بمنصب تستحقه كصاحبة تراث عريق في مجال الفكر والثقافة والفنون على أنواعها فضلا عن التراث الآثاري العريق. ولو أن التطبيع كان يحقق الغرض لما كان فاروق حسني أخفق، ودليلنا على ذلك أن رد فعله الأول بعد فوز البلغارية بالغنيمة تمثَّل بقوله إن خسارته لصوتين في الجولة الحاسمة «كانت نتيجة خيانة لأن الضغوط الصهيونية كانت رهيبة وأن طبخة استبعاده أُعدت في نيويورك على هامش الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة كما أن السفير الأميركي لدى اليونيسكو (الذي يجاهر بعدائه للعرب والمسلمين) كان يتصرف بقوة وبكل ما يمكنه من إمكانيات لمنعي من الفوز بالمنصب». هذا إلى جانب معلومات أفادت أن نتنياهو أيضا لم يف بوعده للرئيس مبارك بعدم الاعتراض على فاروق حسني. ولا بد أن «المثقف المصري الفصيح» وجد نفسه يتساءل: إذا كانت الإدارة الأميركية وحليفاتها الدول الأوروبية تقف بقوة إلى جانب امرأة شيوعية الأصل (والدها ترأس تحرير صحيفة الحزب الشيوعي البلغاري) ومن أقل بلدان أوروبا أهمية وأكثرها فقرا وكانت في المنظومة الشيوعية، ولا تساند مرشح أكبر دولة عربية دشنت مرحلة التطبيع مع إسرائيل متذرعة بأن فاروق حسني هو صاحب «محرقة الكتب العبرية» وهو مَن ساعد خاطفي سفينة «اكيلي لاورو» على الهروب من إيطاليا عام 1985، فهذا معناه استصغار شأن مصر ومعناه أيضا أن التطبيع كما ذكرنا إنما هو لعنة وليس تأشيرة لدخول نادي المناصب الدولية الكبرى. كما أن «المثقف المصري الفصيح» وجد نفسه يتساءل: ما هذا السر الذي جمع الأميركي على الألماني على النمساوي على البريطاني على الياباني من أجل إلحاق هزيمة بمرشح مصر طالبة الود لكل هؤلاء؟ ثم إذا كانت ذريعة عدم اكتمال المؤهلات لدى فاروق حسني لا تجيز ترئيسه لليونيسكو فهل هذه المؤهلات متوفرة لدى البلغارية ايرينا بوكوفا التي أبرز ما فعلَتْه إلى جانب بضع دراسات ومؤلفات أنها كوزيرة للخارجية في بلغاريا تتقن الانكليزية والفرنسية والإسبانية والروسية إلى جانب اللغة البلغارية ودافعت بقوة عام 1996 ـ 1997 عن دخول بلدها إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وما أهمية هذا الإنجاز بالمقارنة مع الخطوة المصرية المتمثلة بإبرام معاهدة سلام مع إسرائيل؟

خلاصة القول إن التعويل على ورقة التطبيع هو من الرهانات الخاسرة. وبعد الذي جرى لا بد من عدم المبالغة في إظهار حُسْن النية تجاه إسرائيل والطابور الذي يحمي ظهرها ويفيض خيرات مالية وعسكرية وسياسية عليها، وخصوصا أنها منذ أشهر تلح على الرئيس أوباما وعبر موفده الرئاسي إلى المنطقة ميتشيل على إنجاز تطبيعات عربية معها. ويا ليت الوزير فاروق حسني الذي واساه الرئيس مبارك بعبارة «بص لشغلك وارمي ورا ظهرك» وشدَّ من أزره رئيس الحكومة أحمد نظيف بالقول «كسبناك في مصر كمِّل مشروعاتك العظيمة»، يعمل بموجب هذه المواساة فينشط مصححا أكثر. ومِن قبله فعل الدكتور غازي القصيبي الشيء نفسه لمجرد أن قال له الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 1999 (وكان ما زال وليا للعهد) عند اتصاله به ليوضح له خفايا وألاعيب ومناورات دهاليز العملية الانتخابية لليونيسكو، ولماذا فضَّلوا الياباني على العربي السعودي مع أن كفة ميزان الكفاءة لمصلحة الأخير: «لا تهتم. أبليتَ بلاء حسنا. أردْنا شيئا وأراد الله غيره. لا تلتفت إلى الخلف وانظر إلى الأمام».

إنها لعبة الأمم فينا وتلاعبهم علينا. ولذا فإلى جانب طي صفحة التفكير بأي تطبيع قبل أن تأخذ إسرائيل ومِن ورائها الدول التي تعطينا من أطراف ألسنتها حلاوة، بمضمون المبادرة العربية، علينا أن نتأمل في ابتكار وسائل ضغط كثيرة. وهذه تركيا الأردوغانية تدشن أسلوبا جديدا في الضغط الفاعل نسبيا على المدى القصير. ولذا فلا فضل لأعجمي أو تركي على أخيه العربي إلا بممارسة الضغط، حسب قدرته إلى جانب التقوى بطبيعة الحال. وبذلك ربما يستعاد الحق ولا يستباح الحرم الثالث.