«النقل» العام

TT

مسلسل الحوادث المأساوية المستمر في حوادث السكة الحديدية بمصر يعيد فتح ملف النقل العام عموما في العالم العربي وحجم المشكلات الذي يعانيه. فالقصة الأكثر «انتشارا» هي رداءة حالة السكك الحديدية بمصر وكثرة الحوادث فيها وتكرار حدوث الوفيات بأرقام مفزعة، إلا أن المسألة لا يجب أن تتوقف عند هذه المسألة فالنقل العام بالسودان غير موجود تقريبا إلا بمحاولات فردية، خدمات «السرفيس» و«البوسطة» وهي المسميات الشعبية لوسائل النقل بلبنان متخلفتان من عصر قديم ولم يتم تطويرهما أبدا وهي مثلها مثل حال البلد تبقى مرهونة بالعشوائية. في سورية الوضع ليس بالأفضل فالنقل العام يعتمد على مبادرات فردية خاصة تستغل عنصر الحاجة والطلب الكبير وغياب البديل الرسمي المنظم، والسعودية أيضا فيها مشكلة واضحة في قطاع النقل العام فهي أقل دول العالم في استخدام وسائل النقل العام فالحافلات العامة فشلت فشلا كبيرا ولم يسمح لكسر الامتياز الحصري الممنوح، وبالتالي استمر ملء الفراغ الموجود بوسائل نقل عشوائية وخطيرة وغير منظمة والناس لا تزال بانتظار حلم المترو والسكك الحديدية لتخفيف الازدحام. النقل العام معضلة كبيرة تتفاقم تكلفتها مع مرور الوقت، والقصور في إيجاد وسائل عصرية وفعالة وعصرية لعلاج الأزمة يزيد من عناصر اختناق المدن بالازدحام والتلوث وبطبيعة الحال من تذمر المواطن وسخطه وإحساسه المقيت بالذل والهوان في قضاء مشاويره. الإجابة الصارخة التي تقع نصب أعيننا حين السؤال عن سبب هذا الوضع البائس والحزين هو: سوء التخطيط وهشاشة الرؤية. فكيف غاب أو غيب عن المخططين أنه بوجود نسب نمو هائلة في أعداد السكان ونسب هجرة مخيفة من المدن الأصغر إلى المدن الأكبر الرئيسية سيزداد وضع النقل العام تأزما ويرتفع الطلب والحاجة. المطلوب ليس بعلوم ذرة ولا هي مسألة بأحجية معقدة تتطلب «ضرب الودع وفك المندل»، هناك مدن كبرى مثل بوسطن ولندن وباريس قامت بإنشاء شبكات مترو عملاقة سواء تحت الأرض أو فوق الأرض ويساندها في ذلك حافلات «نظيفة» ذات استهلاك مقنن للوقود وتصان باستمرار فلا تكون ملوثة للبيئة تدور على محطات مدروسة بطريقة منظمة فتحقق المطلوب بفعالية، ولم تقتصر قصص النجاح على تلك الأمثلة من الدول الصناعية بالعالم المتقدم، ولكن هناك أمثلة أخرى مثل سنغافورة وجنوب أفريقيا وماليزيا وتركيا وغيرها. عندما تكون هناك فجوة كبيرة بين إدارات المدن والحكم المحلي وبين قطاع النقل فلا يكون هناك تنسيق متفق ومتواصل بين حاجات المدن الحقيقية وقدرات قطاع النقل ستحدث الفجوات الكارثية الموجودة بيننا. التقنية والاختراعات المتطورة جعلت من إمكانية تحقيق عناصر السلامة وتقديم الخدمة الفعالة مسألة ممكنة وقابلة للتحقيق وبدلا من النظر بعين ناقصة تطلب الحفاظ على عمال وموظفين هم بالأصل لا يتقنون عملهم ويتسببون في أعطال وخسائر وحتى وفيات هناك بديل آلي آخر مبرمج قادر على تحقيق خدمة وأمان وإنقاذ أرواح الناس، وتمكينهم من التنقل بكرامة، هي مسألة أوقع وأهم من حفنة من الوظائف لناس لا يؤدون الأمانة بحق. النقل العام هو مفهوم أخلاقي في المقام الأول، وتقديمه بنجاح هو تحقيق لفكرة أن المواطن له حق التنقل بأمان ويسر وأي انتقاص في تقديم هذه الفكرة بهذا الأسلوب هو تكريس أن المواطن عليه أن يتألم ويهلك حتى في أضعف المسائل!. الخلل في تطبيق نظام متكامل للنقل العام يعجل بهلاك المدن وتذمر الناس وتلوث البيئة وجميعها مسائل لا نقوى عليها.

[email protected]