تفجيرات وفجور

TT

منتهى الفجور في الخصومة، وقمة الانتقام الأعمى الإجرامي، ودموية الإرهاب التي لا تفرق بين أحد، وشمولية الوحشية التي لا تميز أبدا: تلك كانت تفجيرات الأسبوع الماضي في بغداد وبيشاور وبلوشستان إيران. القتل الجماعي الحاقد الذي يرتكبه بشر خارج مفاهيمنا كبشر. مئات من القتلى والجرحى وآلاف أخرى من الأسر والمتضررين يصعب إحصاؤهم، أو قياس معاناتهم على فقدان أطفالهم أو أمهاتهم أو آبائهم ومعيليهم. جرائم همجية بكل المقاييس.

يمكن أن ينتهي المقال هنا، ويمكن أن نتوقف عند الإدانة ـ وكفى الله المؤمنين شر القتال، الباكستانيون أنحوا باللائمة على طالبان، والإيرانيون لاموا كل العالم إلا أنفسهم، وبقيت الإدانة العراقية الرسمية أكثر هذه الإدانات والاتهامات غرابة واستغرابا. منذ الدقائق الأولى لجريمة الأحد الماضي ببغداد ـ والتي راح ضحيتها أكثر من مائة وخمسين قتيلا وخمسمائة جريح ـ أشارت بغداد الرسمية بأصابع الاتهام وبإعلان واضح غير متردد أن «القاعدة» والبعثيين ارتكبوا تلك المجزرة، وهذا الجزم العراقي الرسمي يثير الاستغراب ويفترض إدانة غير مباشرة لمن أطلقه، ذلك أن الجزم السريع يفترض معلومات مسبقة، وبالتالي أحد أمرين: إما أن الجازم متورط بالتفجير أو متواطئ بإخفاء المعلومات والتستر على المجرمين، أو في أحسن الأحوال ـ هو مقصر لعدم عمل اللازم لوأد الجريمة في مهدها.

الحكومة العراقية تسارع بعد كل تفجير بإدانة جيرانها غربا ـ أو بشكل أدق العرب غربا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تفترض أن يكون الإرهاب قد جاء من إيران أو تركيا أو حتى من إسرائيل ـ المشجب التقليدي لتعليق مشاكلنا دوما. التفجير الكبير الذي جرى الأحد الماضي ببغداد كان عملا منظما واختراقا أمنيا وفضيحة رسمية تسقط حكومات ديمقراطية بأكملها، وخصوصا حين يتكرر الجرم بشكل شبه متماثل، ففي نهاية أغسطس الماضي دوت جريمة شبيهة في قلب المنطقة الخضراء لتحصد المئات من القتلى والجرحى، تكرر نفس الاتهام من الحكومة العراقية ضد سوريا تحديدا، ولكنه هذه المرة جاء أكثر شمولية وغموضا: «القاعدة» والبعثيون و«من يقف ورائهم» في إيحاء غير مغلوط بأن العرب غربا يقفون وراء هذه التفجيرات.

الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الحكومة العراقية الحالية فشلت فشلا ذريعا في توفير أبسط مقومات الأمن في مناطق بغداد وديالى والمناطق الغربية، والتعامي عن هذه الحقيقة لن يدين سوريا ولا أية دولة عربية أخرى، والحقيقة الأخرى أن الحكومة العراقية ضاهت النظام الذي سبقها فجورا في خصومتها، واستنت سياسة الانتقام والتطهير الطائفي ـ أو تغاضت عنها ولم توقفها، وبنت أجهزتها الأمنية على أسس طائفية بحتة، فكانت النتيجة العودة إلى المربع الأول ـ و«كأنك يا بوزيد ما غزيت». والمثل لا يقصد به الجنرال جون أبي زيد قائد القوات الأمريكية السابق في العراق، وإنما هو منسوب لأبي زيد الهلالي.

الموضوعية تفترض أن تتحمل الحكومة العراقية الحالية الجزء الأكبر من مسئولية هذا الدمار الأمني ببغداد، لأنها منذ تسلمها زمام الأمور سارت في طريق الانتقام، وغلفت هذا الانتقام بثوب الطائفية لاصطفاف أكبر عدد من الطائفة الشيعية ورائها، وكرست بسياسة غير معلنة ـ لكنها لا تخفى على أي متابع ـ المحاصصة الطائفية بالوظائف القيادية الأمنية، لأنها جاءت بدوافع طائفية، وبقوائم انتخابية طائفية بحتة، وبخطاب ديني لا يمكن له أن يجمع شمل الشعب العراقي المتعدد الأطياف والأديان والأعراق.

من معاني الفجور الكذب وارتكاب الفسق، ومن مشتقات الفجر معنى ما قبل انبلاج الصبح، والعراق طال ليله، وكثر فسق وفساد ساسته، وهو مقبل على انتخابات تاريخية في يناير القادم، فلمن سيصوت العراقيون حينها؟

الإجابة لدى الإنسان العراقي!