طائفية اللاطائفيين

TT

يريد أن يقنعنا البعض بأن الطائفية في العراق هي من طرف واحد، وأن بإمكان أي أحد أن يبرئ نفسه من تهمة الطائفية عبر اتهام الآخرين بها، حتى لو كان تاريخه مليئا بشواهد عن التورط في قتل الآلاف من أبناء شعبه لدوافع عرقية وطائفية. وما ردود الأفعال التي شهدناها من البعض خلال الأسبوع الماضي على جريمة الأحد الشنيعة إلا تعبير عن طائفية متغلغلة تخفي نفسها خلف قناع واهٍ من «العلمانية المزيفة» و«الوطنية الورقية» الشبيهة بوطنية من فرّوا من المعركة بعد سماعهم صوت الدبابات الأمريكية في ضواحي بغداد بعد أن أصموا آذاننا بخطب حماسية عن الكرامة والتضحية و«الشوارب»، فالوطنية عند هؤلاء عوراء لا ترى إلا جانبا واحدا من الصورة، إنها وطنية تعتبر 60% من الشعب العراقي متخلفين ولطامين و«صفويين» و«شروكية» ومشكوكا ولاؤهم للعراق، أي أنها مقدما تلغي «الشعب» من معيارها للوطنية، ولا أعرف ماذا يبقى من العراق بدون العراقيين، وكيف يمكن أن نقول مثلا إن ألمانيا أمة عظيمة لو تخلصت من الألمان! ولكنها مجددا مقاييس عالمنا الشرق أوسطي العتيد، حيث تحولت القبائل والطوائف إلى دول ويراد لشعوبها أن تتصرف كأمم حديثة وهي ما زالت تحت سطوة عقلية القبيلة.

الوطنية العوراء هي تلك التي تنظر للصراع الطائفي على أنه من جانب واحد، ولخطر الجوار على أنه قادم من اتجاه واحد، هي تلك التي تتباكى على تجفيف إيران للأنهر التي تصب في العراق، ولكنها لا تنبس ببنت شفة على ما تفعله تركيا بدجلة والفرات، كما أنها تلك التي تتحدث عن المسلحين القادمين من الغرب العربي وتتجاهل أولئك القادمين من الشرق الإيراني. لذلك رأينا سياسيين وكتاب ينبرون حتى قبل أن تجف دماء الأبرياء في تفجيرات الأحد إلى توظيفها في خطابهم السياسي «الوطني» فينبري برلماني ورئيس كتلة سياسية بصفاقة إلى تبرئة تنظيم القاعدة وكأنه ناطقه الرسمي وكأنه لا يدرك أن التفجيرات الانتحارية هي بصمة هذا التنظيم الإرهابي، وأنه يستند في القيام بها على تبريرات عقائدية كمبدأ الترس وكاعتبار الشيعة مرتدين يستحقون القتل وأن في قتلهم تقرباً إلى الله! أحدهم لم يرَ في الأمر سوى فرصة لتأكيد الفشل الذريع لحكومة المالكي، وهو فشل ظل يتحدث عنه حتى عندما كان المالكي يتفوق على الجميع في انتخابات المحافظات، وهو ينسى أن حكومة المالكي هي تشكيلة تضم في معظم تركيبتها خصوما للمالكي، وأن الأخير لا يستطيع أن يتخذ قرارا بنقل مسؤول من موقعه أو إقالة وزير، ما دام الجميع محميين بنظام المحاصصة الذي يصبح مقبولا وضروريا لدى من ظلوا سنوات طويلة ينتقدونه فقط إذا ما حقق مصالحهم. إن الذي بقي طوال السنوات العصيبة الماضية المليئة بتعقيدات لا يمكن تبسيطها بثنائية الأخيار والأشرار، يوجه لومه لطرف واحد، يتحدث عن دولة جوار واحدة، يشير إلى فشل سياسي واحد، لا ترى عينه الطائفية إلا عندما تأتي بالضرر على مصالحه، هو الطائفي الأكثر خطرا حتى من الطائفي الصريح، فالأخير يعلن موقفه بلا مواربة ويقول صراحة إنه مهتم فقط بما يعتقد أنه مصلحة شريحته الطائفية أو العرقية، أما الطائفي المستتر فإنه يظل يلعب لعبة التمويه ويستخدم خطابا انتقائيا يدس السم بالعسل ويخلط المفاهيم بطريقة تخفي هوية مصالحه الحقيقية، والطائفي المستتر قد لا يدرك طائفتيه أصلا، لأن في عقل الإنسان آليات تمارس قدرا من الإقناع الذاتي وتصور للإنسان الوصولي أنه يسعى لأهداف مثالية، ومثل هذا النوع من الطائفية هو الذي ظل يحكم العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة. وأنا هنا أقتبس من البروفيسور الأمريكي ايريك ديفيس في كتابه المهم «ذكريات دولة»، أن الهيمنة الطائفية ـ المناطقية في عراق البعث كانت تستخدم تمويها ايديولوجيا لتجنب الخطاب الطائفي الصريح، فهي تلجأ تحديدا إلى الحديث عن عروبة العراق والتي تتضمن مفهوما اثنيا للهوية يهمش الأقليات التي لا تنسجم مع الهوية العربية عرقيا أو طائفيا، وهو أيضا وعبر توظيفه للموارد النفطية الهائلة التي تراكمت في ميزانية العراق منذ الصدمة النفطية في السبعينيات، قد ركز على التثقيف الايديولوجي وأنفق أموالا طائلة في شراء الكتاب والشعراء والصحف والمجلات لتمرير خطابه السياسي الذي قام على سندين: الأول أن العراق هو مجرد بلد مؤقت لحين قيام الوحدة العربية، وبالتالي لا داعي للحديث عن تركيبة العراق والديمقراطية فيه وحقوق الإنسان، بل التركيز فقط على «مهمته التاريخية» في الدفاع عن الأمة العربية (بتعريفها العرقي ـ الطائفي الضيق)، والثاني أن المجموعات السكانية التي يستعصي عليها الدخول ضمن هذا التعريف الإقصائي للعروبة، تشكل خطرا ينبغي على الدوام مواجهته، ومن هنا ابتدع النظام مشاريع لإعادة كتابة التاريخ ولتفسير الماضي قام خلالها بإلغاء أي أهمية لماضي العراق قبل الدولة العربية الإسلامية (على الأقل مقارنة بمصر التي أولت الكثير من الاهتمام للتاريخ الفرعوني)، ثم للتركيز على حوادث تاريخية معينة ـ ابن العلقمي، البرامكة، وغيرها ـ لتغذية موقف سلبي من مكونات عراقية بعينها مما يسهل له زرع المخاوف والأحقاد المتبادلة داخل المجتمع.

إن الأحزاب الشيعية تتحمل مسؤولية كبيرة في ما آل إليه وضع الإنسان العراقي اليوم، وفي فشلها ببلورة مشروع واعٍ للدولة يقوم على الاحتواء وعدم التهميش، والحكومة العراقية بكافة مكوناتها التنفيذية من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزراء إلى الوزراء عليها تحمل تكلفة الدم العراقي المسال يوميا إن لم يكن باتخاذ إجراءات رادعة وفعالة وموحدة، فبالاستقالة. أما الطائفيون، العلنيون منهم والمستترون، فليس أمامهم إلا أن يفتحوا عينهم الثانية ويشاهدوا المشهد بلا عور، أو اجترار خطابهم المستفز بشكل لا يزيدهم سوى كراهية من الآخر الطائفي.