وقررت أن ينتهي كل شيء!

TT

يقولون حياة مملة. فنحن نمشي كل يوم على النيل. ونتكلم. ولا نرى الشارع ولا العشاق. كل يوم يقوم واحد منا -نحن الخمسة- بتلخيص كتاب قرأه. أحيانا نتحدث ماشين أو جالسين على سلالم المكتبة. واسمها «المكتبة الفاروقية» تيمُّنا باسم ولي العهد الأمير فاروق ابن الملك فؤاد. ومعي شهادة من هذه المكتبة تقول: «قرأ ابننا أنيس محمد منصور كل الكتب الموجودة في هذه المكتبة وعددها 1174 كتابا». شهادة من أمين المكتبة. هو الذي كتبها. ولأول مرة. شهادة لكي أعطيها لوالدَيّ لتقر أعينهما ولا تحزن. ولم أقدم لهما هذه الشهادة. كيف؟ إنهما مريضان. وهذه الشهادة لا تخفف ألما ولا تمنع سعالا ولا توقف رعشة. ولا تجفف دموعي.. ووضعت الشهادة في مكان نسيته حتى لا أراها. ولا يراها أحد.. ولم يسألني أبي ولا أمي إن كانت نتيجة الثانوية العامة قد ظهرت. وظهرت وجاء ترتيبي الأول. ولم أجرؤ أن أخبر والدَيّ. فلا معنى. فلا هي روشتة علاج ولا هي شهادة من الأطباء بأن هناك أي أمل في شفائهما. وإذا كانت أمي وأبي لا تسعدهما هذه النتيجة فلا معني ولا قيمة.

وفي إحدى الليالي جاءت أمي توقظني: قل لي يا ابني. هل صحيح أنت تريد أن تدخل جامعة الأزهر؟ فقلت: لا..

وقبّلتني أمي وتساندت حتى أوت إلى فراشها. كانت فكرة قديمة من والدي. وغضبت أمي ورفضت أن أكون مثل ابن خالتها. وأن أكون مثل عمي: عمامة وجبة وقفطان أخطب في المساجد أو اقرأ في المقابر على أرواح الموتى.. والصورة التي عند أمي وتتمني أن تراها على الجدران وفي الصحف أن أكون وزيرا مثل أحد أقاربها الذي صار رئيسا للوزراء.. ويومها جمعت أمي أشياءها وعادت إلى بيت أبيها. وقررت ألا تعود..

وعادت أمي وعدت إلى المدرسة ..

فلم أجد وسيلة ولا مناسبة لكي أخبر أبي وأمي أنني نجحت وأن ترتيبي الأول. إنهما غير قادرَين على الابتسام. وأمي غير قادرة على أن تكون سعيدة. والسعادة بعيدة جدا.. ولا توجد في الزجاجات. فأقصى أماني أمي ألا يكون صداع وأن تنام ولا تقول مع كل دقة.. وأقول أنا أيضا آه سرا وعلنا.

وقررتُ أن يزورهما الطبيب غدا وبعد الزيارة أن أنهي حياتي. وأن ألقي بنفسي في النيل. ووضعت الزجاجات في متناول أمي وأبي. وكتبت بوضوح أن الزجاجات يجب أن يشربها والدي ووالدتي.. والحبوب والحقن. وقلت لجارتنا إنني على سفر في رحلة مدرسية. وإني سوف أعود. وسألتني إن كنت قلت لأمي. فقلت: لا البركة في حضرتك..

وسرت ولا رأيت شيئا أو أحدا في الطريق. وذهبت إلى جسر على النيل. ورحت أبكي كلما تذكرت أن أمي سوف تبكي حتى الموت.. وبكيت و بكيت!

(من مذكرات لم تنشر بعد)