سناء يا ولاد

TT

لا أدري كم أقرأ في اليوم. كم كتاباً وكم صحيفة وكم مقالا. بعض هذه القراءات حباً في المتعة الأزلية، القراءة. ومعظمها بحثاً عن موضوع جديد لهذه الزاوية التي ما أن تنتهي من كتابتها حتى تسأل نفسك ماذا سأكتب غداً. والقراءة طرق. هذا كتاب أعود إليه كما يعود العطشان إلى النبع. وهذا كاتب تمر على رتابته كالطيور الهاربة، وهذا كاتب تتمنى لو أن مقالته أطول مرتين على الأقل، وهذه صحيفة لا تقرأ فيها سوى الإعلانات، أو ما نقلته عن الصحف الأخرى.

عندما اشتريت أمس الطبعة الثالثة من «مصر يا ولاد» لسناء البيسي ساورني ذلك الشعور بالفرح الذي يخامرني عندما أشتري هدية لابنتي. فأنا أعتقد أن سناء البيسي مثل الرذاذ في ايرلندا: لا تتوقف عن الهطول ولا تتحول إلى سيل. تُعشب الدنيا من حولها ولا توحل. فكر غزير وقلب غزير ونقد غزير وقلق غزير وعذوبة شاعرية فائقة وغزيرة.

لست أستسيغ الإكثار من العامية وسناء رذاذ من الكلمات العامية. لكنّ في نثرها العامي شيئاً من جماليات بيرم التونسي وزجليات شوقي. تصر على «اودة» بدل غرفة، وعلى «صابعي» بدل اصبعي، وعلى «الجرنال» بدل الجريدة. ولكن معليش. للهانم أن تكتب كما تشاء، إذا كانت ستكتب دوماً هكذا. البلاغة ليست فصحى دائماً.

اقرأ كيف تروي حياتها المهنية: «في (أخبار اليوم) تدربت طالبة في قسم الصحافة على يد الأستاذين علي ومصطفى أمين. دخلت أودة عندهم بالدور الأول وعمري 17 سنة. وفضلت أكتب، أكتب، أكتب وأرسم. بعدها رحت لأودة ثانية في «الأهرام» أعمل مع الأستاذ هيكل العام 1964، وفضلت أكتب اكتب وأرسم. وما بين الجدران الأربعة هنا وهنا ضاع عمري. حياتي المراهقية والشبابية واللعبية والنضوجية والعاطفية والزوجية والأمومية والأسرية والاجتماعية والترفيهية. كلها ضاعت.

أفنيت عمري ما بين بنايتين على جانبي حوائط الصحافة التي تأكلك لحماً وترميك عظماً وأنت منوم بسحر الكلمة التي تشكلها بدماء قلمك فتجدها مطبوعة على آلاف الصفحات بين يدي آلاف القراء وتظن أنك بآرائك وسطورك قد دككت الأرض دكاً وبلغت الجبال طولا وانك حوّلت مجرى النهر وصددت نحر البحر وقلمت أظافر الغول ووضعت الفيل في المنديل..».

ترى لماذا يعتبر الصحافي دوماً انه ضيع عمره على طريق الحبر؟ لماذا لا يندب المحامي أو المهندس حظه؟ أو لعله يفعل لكنه لا يعرف كيف يكتب ذلك. وإذا كان قلم سناء البيسي ضياعاً فماذا عن الذين يصفون الكلمات ويرصفونها ويكدسونها ويجمعونها ويستعيرونها ويسرقونها ويدعونها ويمتطونها ويبقونها. من بُق بالمصري وبَق من ثقل الدم.