من وكالة الطاقة لوكالة البلح؟

TT

وكالة البلح هي سوق البضائع المستعملة في مصر، يتاجر فيها الفقراء في كل شيء من الملابس إلى قطع غيار السيارات والكمبيوتر، سوق سوداء لكل شيء، لم يعد اسمها مرتبطا بالبلح كما كانت في مصر القرن التاسع عشر، حيث كانت السوق الرئيسية لبيع البلح القادم من الصعيد لأهالي القاهرة والدلتا. ولكن ما علاقة وكالة البلح بوكالة الطاقة النووية التي يرأسها الدكتور محمد البرادعي، لا علاقة سوى أن البلح به نوى والوكالة نووية، إذن الموضوع كله نووي في نووي. لكن ليس هذا هو القصد من المقال هنا.

أكتب هذا المقال من القاهرة، من بلد مهووسة صحافته وفضائياته، وأحاديث مجالسه بسؤالين لا ثالث لهما، الأول هو من سينافس الرئيس حسني مبارك في الانتخابات القادمة؟ والثاني هو من يصبح رئيسا لمصر لو غاب الرئيس عن المشهد فجأة؟ السؤال الأول مقبول، أما السؤال الثاني ففي طرحه وفي الإجابة عليه بدت مصر وكأنها قد فرغت تماما من أدوات التحليل السياسي العقلاني لصالح الخزعبلات.

السؤال الأول كان هاجس المعارضة المصرية التي تبحث عن مرشح من خارج كوادرها، وتضمنت الأسماء المطروحة أناسا يعيش معظمهم في الخارج مثل الدكتور محمد البرادعي، الدكتور أحمد زويل، والدكتور مجدي يعقوب. وهو مؤشر على أن الأسماء التي في الداخل قد تكون مستهلكة أو أن الداخل المصري قد خلا من الأسماء التي يمكن أن نقول إنها تتمتع بإجماع وطني، وتلك قصة طويلة تحتاج إلى مقال مستقل.

أما السؤال الثاني، فقد طرحه الصحافي القديم محمد حسنين هيكل، وطرح له حلا في صورة مرحلة انتقالية للحكم في مصر يشرف عليها مجلس أمناء، كما لو كانت مصر شركة محدودة، ولكن ما علينا، فالفكرة جديرة بالنقاش الجاد، خصوصا أنه طرحت من قبل رجل متقدم في السن ينظر إليه في مصر على أنه شيخ الصحافة. طرح هيكل فكرة مجلس أمناء يشرف على انتقال السلطة في مصر، ورشح من عنده مجموعة أسماء لمجلس الأمناء هذا، وشملت ترشيحاته كلا من الدكتور محمد البرادعي، الدكتور أحمد زويل، والدكتور مجدي يعقوب، والأستاذ عمرو موسى، والدكتور حازم الببلاوي. وقال إن هناك إجماعا وطنيا على هذه الأسماء، رغم أنه لم يحدث أي استفتاء شعبي لمعرفة ما إذا كان هناك إجماع على هذه الأسماء أم لا، ولكن يبدو أن من يختارهم هيكل لا بد أن يمثلوا إجماعا، رضي الناس أم كرهوا.

ليس عيبا أن يطرح هيكل هذا السيناريو، ولكن العيب أن يتحاور حوله المصريون وكأنه هو السيناريو الوحيد. فمثلا لو طرح هذا السؤال في أحد المراكز البحثية المحترمة عن مستقبل مصر في السنوات القادمة، لطرحت مثلا أربعة سيناريوهات. السيناريو الأول هو سيناريو الثورة والفوضى المفاجئة، والتي يغيب معها الرئيس، وهذا ما نطلق عليه سيناريو (أسوأ الظروف)، وهنا وفي ورشة عمل حول هذا الموضوع سيطلب من أحد المشاركين طرح التصور السيئ جدا، وهو بالضبط ما طرحه هيكل. ولو كنت مشرفا على ورشة العمل هذه لأعطيت سيناريو هيكل عشر دقائق فقط، لأنه سيناريو غير وارد في الحالة المصرية، وتحركنا في السيناريوهات الأخرى.

السيناريو الثاني، هو غياب الرئيس، ولكن يبقى الوضع على ما هو عليه، بمعنى أن المؤسسات القائمة تنتج بديلا يشبه الرئيس مبارك من حيث التوجهات العامة للدولة المصرية. السيناريو الثالث هو أن يحدث تحالف بين النظام وبعض القوى الوطنية الأخرى فتكون النتيجة نظاما أكثر انفتاحا على الداخل والخارج. السيناريو الرابع هو سيناريو الجنرال الغائب. فكما عند الشيعة مسألة الإمام الغائب قد يحدث أن يتدخل الجيش، ويظهر على الساحة جنرال ذو شخصية وهيبة (كاريزما)، جنرال لا نعرفه، ولذا سميته بالجنرال الغائب. وفي هذا السيناريو نتحدث عن دور الجيش في الحياة المصرية وإمكانية تدخله. هناك سيناريوهات أخرى حول غياب أكثر من شخص من المشهد في وقت واحد..الخ. المهم هو أن سيناريو هيكل وهو الأقل واقعية، والذي لا يستحوذ سوى على عشر دقائق، هو الذي ساد المشهد، وهذا دليل على أن معيار الحوار في مصر يبدو منفلتا أو غير واقعي في أحسن الأحوال.

في هذا الجو الذي تطرح فيه الترشيحات والبدائل، استوقفني اسم الدكتور محمد البرادعي، مدير وكالة الطاقة النووية التي قاربت مدته على الانتهاء. ولو كنت مكان الدكتور البرادعي لترددت كثيرا في الاستجابة لطلب المعارضات المصرية المختلفة، فدخول البرادعي الحلبة على قمة أحزاب لم تنجح حتى الآن أن يكون لها وجود أكبر من مكاتب صحفها، هذا معناه أن الدكتور البرادعي قد انتقل من عالم وكالة الطاقة النووية، تلك المؤسسة المحترمة التي منحته جائزة نوبل، إلى عالم وكالة البلح، حيث يدخل الرجل في عالم «حلق حوش»، عالم النصب والاحتيال ممن يصورون له أن فرصته في المنافسة على حكم مصر هي فرصة ممكنة، فقط مطلوب منه أن يقبل الترشيح على قائمة حزب من الأحزاب. بكل أسف، هناك أحزاب في مصر أكثر من عدد الدول العربية المنتمية للجامعة العربية، ومع ذلك لم تثبت مصر حتى الآن أنها تربة صالحة لنمو الأحزاب. الحزب الذي لا يستخدم يضمر ويموت، كما قال تشارلز دارون. فمنذ أن قنن الرئيس الراحل أنور السادات الأحزاب في مصر، لم يبق على الساحة سوى حزب واحد، أما البقية فهي مجرد شخوص وصحف لا غير. وهذا سؤال للباحثين في تجربة الديمقراطية في العالم الثالث، لماذا ترفض التربة المصرية نمو الأحزاب المتنوعة فكريا وعقائديا؟ أسئلة كثيرة تخص طبيعة النظام الحزبي في مصر وتطوره وسبل إصلاحه، وكذلك فاعلية الأحزاب السياسية المصرية.

كل ما تحاوله الأحزاب من أجل التغطية على عدم وجودها في الشارع هو إما التواجد في الفضائيات ليصبح قادتها رواد فضاء، أو أن تبحث عن وجوه من خارجها تكسبها شعبية غير موجودة في الشارع.

بقيت في القاهرة لمدة أربعة أيام، وكان مدهشا بالنسبة لي أن قواعد الحوار قد انفلتت لدرجة لا تليق بمجتمع ذي تاريخ به كثير من العقول النيرة، بدا الحوار شخصيا أكثر من كونه موضوعيا، كيديا أكثر من كونه محاولة للفهم، زاعقا بهدف إثارة جماهير الفضائيات، حوار أقرب إلى عالم وكالة البلح منه إلى عالم وكالة الطاقة، سوق رائج للبضائع المستعملة من قديم القول وسقط المتاع، حوار تتاجر فيه جماعات تسمي نفسها بالنخبة، كما يتاجر الفقراء في الملابس، وفي قطع غيار السيارات والكمبيوتر المستعملة. لذلك جاءت نصيحتي للبرادعي بأن يبقى في وكالة الطاقة، بدلا من الانزلاق في عالم وكالة البلح.

إن مصر بلد كبير وذو وزن حقيقي، والمطلوب في الحديث عن مستقبل مصر حوار يليق بمصر المكان، ومصر المكانة.