المستوطنون اليهود والعودة للقرون الوسطى

TT

حين تقرأ خبرا مفاده «دعت الأمم المتحدة إسرائيل إلى التوقف عن هدم منازل الفلسطينيين وسياسة الإخلاء القسري في القدس الشرقية، محذرة من أن هناك ستين ألف شخص (فلسطيني) معرضون لإزالة (هدم) منازلهم والتشرد» تتساءل عن دور منظمة الأمم المتحدة اليوم والهدف الذي أنشأت من أجله عشية انتصار قوى الحرية على الوحشية النازية والفاشية، وهل هي المنظمة التي أوكل التاريخ وشعوب العالم إليها ضمان «حق تقرير المصير»؟ وهل هي المنظمة المناط بها مهمة «إنهاء الاستعمار»؟ وهل هي المنظمة التي تضم دولا تؤمن بحق جميع الشعوب بالحرية دون تمييز بالعرق أو الدين؟ إذا كانت كذلك، فلماذا تترك هذه المنظمة المدنيين في فلسطين يعانون من وحشية المستوطنين المسلحين؟!

وتندرج لغة دعوة الأمم المتحدة الخجولة والمخجلة هذه في سياق رضوخ مجلس الأمن للإرادة الصهيونية، فترتكب بذلك عارا تاريخيا يتمثل في تجاهل الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية المشروعة للشعب الفلسطيني، ومنها حقه في الحياة والحرية كغيره من شعوب الأرض. إن عدم اتخاذ الأمم المتحدة أي إجراء أو مبادرة تقود إلى عملية منح حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني لهو عار في تاريخ المنظمة الدولية، لا يزول إلا بزوال الاستعمار اليهودي عن فلسطين وخاصة هو الشعب الذي يرزح تحت احتلال عنصري استيطاني منذ أكثر من ستين عاما، والذي يعاني اليوم من حملة تطهير عرقي على أيدي عصابات المستوطنين اليهود المسلحين والمدعمين بقوى الجيش والشرطة الإسرائيلية لا يعرف عالم القرن الواحد والعشرين لها مثيلا في الإجرام، والتي تتضمن الحصار والقتل وتسميم الأغذية والتجويع والاغتيال وهدم المنازل وإحراق المحصولات وتجريف المزارع وسد سبل العيش في وجه شعب كامل والاعتقال اليومي للفلسطينيين والدهس بالسيارات والجرافات لمدنيين وأطفال واغتصاب الأسرى والتجارة بأعضاء الشهداء ومنع تحرك الفلسطينيين بين مدنهم وقراهم ومزارعهم ومدارسهم مقابل صمت العالم الغربي «المتحضر» الداعم بشكل مطلق لحكومة إسرائيل وتجاهله التام لجرائمها الوحشية اليومية التي يرتكبها المستوطنون اليهود وجيشها أمام بصر العالم وسمعه، بحيث أصبح الصمت العالمي جريمة أيضا بحق الشعب الفلسطيني، لأن هذا الصمت هو الذي يسمح لحكام إسرائيل من سياسيين وعسكريين ولحلفائها بالاستمرار في ارتكاب جرائمها الوحشية ضد المدنيين وانتهاكها لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.

وتأتي دعوة الأمم المتحدة الخجولة والمخجلة لإسرائيل "للتوقف عن إزالة (هدم) منازل الفلسطينيين «على خلفية هدم إسرائيل لمنازل عائلتي حنون والغاوي في حي الجراح في مدينة القدس، بل واقتحام الخيمة التي نصبوها في الشارع قبالة منزلهم و«إزالتها» ومصادرة محتوياتها، والتي تتألف من أغطية لاتقاء البرد وأدوات للطعام وقد كانت هذه الخيمة تضم خمسين شخصا من العائلتين كانوا يسكنون إلى ما قبل بضعة أشهر في منزلهم، الذي هدمته قوات الاحتلال الإسرائيلي بهدف تنفيذ مخططها الدائم لتهويد القدس وإبادة شعب فلسطين على مرأى المنظمة الدولية ومسمعها، وفي كل يوم تقوم قوات الاحتلال الإسرائيلي بواسطة فرق الموت المخابراتية والخاصة بمطاردة وقتل الأطفال والمدنيين في الشوارع وعلى الحواجز أو في مزارعهم أو وراء عدسات كاميراتهم فيقتلونهم دون أن يثيروا فضول العالم «الحر» و«المتحضر» في التعرف على أسماء هؤلاء ودون أن تعتبر حياة الذين يغتالهم حكام إسرائيل ضمن الحياة الطبيعية التي يدعي السياسيون الغربيون الدفاع عنها وعن حقوق الإنسان في العيش بكرامة وحرية. ولا يخلو الأمر بين الفينة والأخرى من اعتراف الأمم المتحدة أو سولانا بأن «هدم منازل الفلسطينيين مخالف للقانون الدولي» والسؤال هو إذا كانوا يعترفون بأن الهدم مخالف للقانون الدولي، وبأن قتل المدنيين الفلسطينيين مخالف للقانون الدولي، وبأن حرمان المدنيين في غزة من الدواء والطعام مخالف للقانون الدولي، وبأن تجريف الأراضي الزراعية الفلسطينية مخالف للقانون الدولي، وبأن اعتقال المدنيين وزج الآلاف منهم في السجون مخالف للقانون الدولي، وبأن بيع مواد غذائية فاسدة للعرب مصدرها المستوطنات مخالف للقانون الدولي، وبأن وجود آلاف الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي لمدة تزيد عن عشرين عاما دون محاكمة مخالف للقانون الدولي، إذا كان كل ذلك بالإضافة إلى الحروب والمجازر مخالفة للقانون الدولي، وهي كذلك، فلماذا لا يتحرك ضميرهم لحماية أمن الفلسطينيين فيما نسمعهم يكررون معزوفة العار الغربية بحماية أمن إسرائيل المعتدية، وهي المسلحة بمئات القنابل الذرية؟ والسؤال الأهم هو ماذا انتم فاعلون؟ سواء الأمم المتحدة أو أوروبا أم تراهم يكتفون بالإقرار بأن ما ترتكبه إسرائيل من جرائم يتناقض تناقضا صارخا مع أهداف وميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والإنساني، فيما تواصل العصابات المسلحة للمستوطنين اليهود بارتكاب جرائم القتل والهدم والإحراق اليومية في القدس المحتلة ونابلس والخليل وغيرها، ويعيثون فسادا بحياة السكان الأصليين وممتلكاتهم ويقتلون من يقتلون دون رادع أو حسيب؟ إذا كانت كل هذه الجرائم التي ترتكب يوميا ضد الفلسطينيين ليست تطهيرا عرقيا، وليست إبادة جماعية، فما هو التطهير العرقي والإبادة الجماعية؟! كان المستوطنون البيض قبل قرون يلقون ببطانيات مجرثمة على الهنود الحمر ليصابوا بالأمراض بهدف إبادتهم، واليوم يمنع حكام إسرائيل الغذاء والدواء ويهدون المنازل ويحرقون المحاصيل ويسممون المياه لإبادة الفلسطينيين أو إجبارهم على الهجرة! وهذه الجريمة تسميها الأمم المتحدة «الإخلاء القسري» هل هناك إخلاء طوعي إذا؟ تخيلوا بعد كل ما ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلية وعصابات المستوطنين المسلحة من جرائم قتل وهدم منازلهم والأمم المتحدة تكتفي أن «تدعو إسرائيل إلى التوقف عن هدم المنازل» كان يجب أن تضيف الأمم المتحدة إلى دعوتها هذه «رجاء يا حكام إسرائيل إذا سمحتم»!

ما يحتاجه اليوم المدنيون الفلسطينيون العزل وبالسرعة القصوى هو التحقيق بالجرائم الإسرائيلية ورفع هذه التقارير إلى هيئة ما دولية تحتفظ ببعض احترام الذات وتحرص على بقية من مصداقيتها، إذ إن الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي وانفلات المستوطنين المسلحين على المدنيين الفلسطينيين العزل في كافة مدنهم وقراهم في الضفة والقطاع أصبح عارا على البشرية لا يحتمل تأجيل الخلاص منه، إذ إن هؤلاء المستوطنين ومن تدعمهم من الأجهزة الحكومية الإسرائيلية ومن يمولهم من منظمات الضغط في الغرب يعيد العالم إلى شريعة الغاب، التي سادت خلال ظلام القرون الوسطى، وبالنظر إلى العجز المخجل الذي تعاني منه الأمم المتحدة، وإشارة إلى تكرار الرئيس أوباما عن التزامه مرة أخرى «بأمن إسرائيل» في الذكرى الـ14 لاغتيال رابين من قبل مستوطن يهودي، بينما كان من المناسب أن يعبر أوباما أيضا عن التزامه «بأمن الفلسطينيين» الذين يعانون من انعدام كل أشكال الأمن على أيدي أصدقائه في إسرائيل.. بالنظر إلى كل ذلك لا بد لأحرار العالم ومثقفيه، بمن فيهم المثقفون اليهود الذين يجب أن يبادروا أيضا لرفع صوتهم ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين، حتى لا يلحق باليهود عار أبدي على ارتكاب جرائم الحرب والإبادة. يجب أن لا يصمتوا عن هذه الجرائم الوحشية، ولا يكتفوا فقط بمنع المجرمين الإسرائيليين من السفر بل بمحاسبتهم كما حاسب العالم مجرمين قبلهم مسؤولين عن قتل وتشريد واحتلال. على المثقفين اليهود خاصة أن يسألوا أنفسهم لماذا يجب أن تقوم حكومتهم على أنقاض حياة وحرية شعب آخر؟ لماذا ترتكب الحكومة الوحيدة لهم في التاريخ جرائم قتل الأطفال والمجازر وهدم البيوت والاغتيال ثم تعمل على تبرير هذه الجرائم وتلوم كل من يريد محاسبتها عليها؟ لماذا لا يواجه المثقفون اليهود هذه المأزق الأخلاقي التاريخي في الكيان الصهيوني؟ حين ارتكبت ألمانيا النازية المجازر ضد اليهود والشعوب الأخرى واجه الألمان هذا المأزق وأصدروا قوانين تمنع معاداة السامية. وحين دفع العالم ثمن حروب وطموحات استعمارية يابانية، اتخذت اليابان قرارا تاريخيا ونهائيا ضد الحرب. لماذا يعتبر المثقفون اليهود أن عليهم تبرير كل ما يرتكبه السياسيون والعسكريون الإسرائيليون؟ وكيف يبررون محاسبة إيهود أولمرت على الفساد المالي ولا يحاسبونه والآخرين ن مرتكبي جرائم الحرب على الجرائم التي يرتكبها بحق الأطفال والمدنيين اللبنانيين والفلسطينيين؟ بل لماذا يعتبرون مرتكبي هذه الجرائم أبطالا لهم وشخصيات اعتبارية يجب ضمان أمنها والدفاع عنها؟ لماذا يشكلون حكومات أبطالها مجرمون يتبارون بسجلاتهم في الاغتيال والقتل والتشريد والمجازر للمدنيين الفلسطينيين، فهذه الجرائم التي ارتكبوها هي جرائم ضد الإنسانية بكل المقاييس؟ لماذا لا ينتقدون في ثقافتهم مجرميهم وحكامهم من الطغاة الملطخة أيديهم بدم الأطفال؟ المثقفون اليهود الصامتون هم الذين يتحملون مسؤولية وجود معاداة للسامية وهم يتحملون مسؤولية استمرار جرائم تحمل العار الأبدي لهم جميعا بسبب صمتهم عن هذه الجرائم، يشاركهم في هذه المسؤولية الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي وكل من يستخدم لغة خجولة ومخجلة في وصف جرائم يجب أن تثير سخط العالم وغضبه وتدفعه لاتخاذ الخطوات الفورية لإيقاف مستوطنين بعقلية القرون الوسطى عن الاستمرار في العبث فسادا بحياة وكرامة وحرية ومقدرات شعب فلسطين، ولا يتم هذا من خلال التزام الصمت أو استخدام التعابير التي تبعد الشبهة عن المجرمين، بل تتم من خلال مقاطعة إسرائيل ومحاسبة مجرميها من السياسيين والعسكريين، والالتزام بحماية أمن ضحاياهم من الفلسطينيين.

سيدين التاريخ الصامتين عن هذه الجرائم، وسيتذكر ويشكر فقط من انتصر لأطفال فلسطين وحق شعبهم العيش بكرامة وحرية وأمان وأمن فوق ترابه الوطني.