قراءة في مصير مسيحيي المشرق

TT

«انتهت المعركة لأنه

ما عاد هناك محاربون»

(بيار كورناي، في «إل سيد»)

استمعت خلال الأسبوع في لندن إلى محاضرة قيّمة تناول فيها المحاضر ما وصفه بـ«الهوية المشرقية» Levantine التي نشأت وتبلورت على امتداد مئات القرون في بلاد الشام وفلسطين وشرق الأردن وشمال العراق. واكتسبت التجمعات البشرية في هذه المنطقة سمات مميزة تركت بصماتها حتى على تقبل شعوبها للرسالات السماوية، فبات للمسيحية المشرقية، مثلا، خصائص ومقوّمات تتمتع بها تختلف عن خصائص المجتمعات المسيحية التي اعتنقت هذه الديانة في مناطق أخرى من العالم، والشيء نفسه ـ وفق المحاضر ـ يصدق على انتشار الإسلام في المنطقة، فبات لإسلام بلاد الشام وشمال العراق نكهة تختلف عن الإسلام في شبه الجزيرة العربية ووادي النيل وشمال أفريقيا، حتى لا نتكلم عن إيران وآسيا الوسطى والجنوبية والشرق الأقصى وأفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى.

هذا المضمون ليس جديداً تماماً، على اعتبار أن الفكر القومي ـ بمختلف خرائطه الكيانية ـ ناقش هذه المسألة في تفسيره، أو تبريره، وجود قواسم مشتركة موضعية تتجاوز الدين، وأحياناً تتجاوز العرق وحتى اللغة. غير أن الجديد كان رسم حدود هذا «المشرق» والتحفظ عن السير أبعد في إنكار ما اعتبره المحاضر من ثوابت الهوية.

وحقاً، يزكّي تطوّر الإسلام في المنطقة وجهة النظر هذه، لا سيما أن أول دولة حكمتها باسم الإسلام، أي الخلافة الأموية، كانت عملياً «دولة عربية».. أكثر منها إسلامية. كما أن الوجود السكاني غير المسلم استمر فيها بكثافة قلّما وجدت في مناطق أخرى في ما بات يعرف لاحقاً بـ«العالم الإسلامي». ولقد عاش المسلم وغير المسلم داخل المدينة الواحدة وحتى داخل القرية الواحدة.. إلى اليوم في أنحاء عدة من بلاد الشام وشمال العراق. واستمر هذا التعايش بطريقة أو بأخرى على الرغم من نكسات كبرى سجلت عند بعض المفاصل.

أولى هذه النكسات وأخطرها، بلا شك، كانت مجزرة القدس عام 1099 م، أول مواجهة مسلحة بين المسلمين والغرب المسيحي في عقر دارهم بعدما بنوا دولتهم ومدّوها إلى غرب أوروبا وجنوبها. واللافت في شأن هذه المجزرة أمران: الأول أن المسلمين والعرب لم يعتبروا الحملات الصليبية حملات «مسيحية» بل حملات «فرنجة»، والثاني أن هذه الحملات عجّلت باعتناق نسبة عالية من مسيحيي المشرق الإسلام إما خشية اتهامهم بالتواطؤ مع «الفرنجة» أو لأن صليبيي أوروبا لم يعترفوا بـ«مسيحية» مسيحيي المشرق فاضطهدوهم وقتلوهم ونكلوا بهم. ولقد كتب المؤرخ الكبير البروفسور نقولا زيادة بهذا الخصوص ما يلي: «.. والحملة الصليبية الأولى، والفظائع التي ارتكبتها في طريقها وفي احتلالها القدس ليس مما يشرّف. وقد ظهرت لنا رغبات الصليبيين من خلال تصرفهم السيئ مع مسيحيي فلسطين أنفسهم، فقد استولوا على أديرتهم وطردوهم من الكنائس والبيوت، فتبعثر المسيحيون في نواحي فلسطين وشرق الأردن.. وسار البطريرك إلى القاهرة ليعيش في حماية الفاطميين».

وأشار أحد المراجع إلى أنه كلما امتد احتلال الفرنجة الصليبيين افتقد المسيحيون الأرثوذكس (الروم الملكيون) واليعاقبة (السريان)، بغياب السلطة المسلمة، التزام الحكام بالحرية الدينية التي حضّ عليها الإسلام، كما خسر الأرثوذكس الرعاية البيزنطية بسبب النزاع الذي نشب بين الفرنجة (الكاثوليك) والبيزنطيين (الأرثوذكس). وبالتالي، اضطر من بقي من الأرثوذكس إلى تقديم الطاعة وضريبة العُشر إلى رجال الكنيسة اللاتينية الأعلى مركزاً، الذين كانوا من جنس دخيل. كذلك منع الأقباط من الحج إلى بيت المقدس لاعتبارهم هراطقة، وحولت كنائسهم إلى كنائس لاتينية. ثم مع تفاقم الصراع بين الإمبراطورية البيزنطية والفرنجة اضطر الإمبراطور البيزنطي للاتصال عام 1110 م بالخليفة العباسي في بغداد ليحرضه على قتال الفرنجة قبل استفحال أمرهم.

بعد هذا المفصل الذي أدى إلى ضمور كبير في الحجم الديموغرافي لمسيحيي المشرق، حصل نوع من الاستقرار كفله تفاهم السلطان العثماني سليمان القانوني مع ملك فرنسا فرنسيس الأول على رعاية شؤون مسيحيي الدول العثمانية العلية، وهو ما تولّد عنه لاحقاً الأزمة المعروفة بـ«المسألة الشرقية». غير أن هذا الضمور عاد فتسارع في أعقاب جملة من الأحداث ذات البعد الدولي ترافقت مع تسلل الوهن إلى مفاصل الدولة العثمانية.. «رجل أوروبا المريض».

ففي منتصف القرن الميلادي التاسع عشر، «خلخلت» الحملة المصرية (1831 – 1840) ثم التنظيمات العثمانية (1839 – 1876) أسس التعايش الطائفي الهش، وغير المتكافئ بالضرورة، الذي كانت أسهمت فيه معادلة «المسألة الشرقية». فحدثت مجازر دمشق وجبل لبنان التي تعرّض لها المسيحيون، مما سوّغ لفرنسا تأسيس «متصرفية جبل لبنان» الذاتية الحكم برعاية القوى الأوروبية.

ثم بعد هيمنة الانتداب الغربي على المشرق بنهاية الحرب العالمية الأولى، وقعت «انتفاضة الآشوريين» عام 1933 في شمال العراق، وأدى قمعها بالقوة إلى سطوع شمس العسكر العراقي ولا سيما الضابط الكردي بكر صدقي «بطل» تلك الحرب، ومن ثم قيادة بكر صدقي عام 1936 أول انقلاب عسكري في العالم العربي المعاصر.

وفي العام نفسه، 1936، بدأت أولى مواجهات الصراع على هوية فلسطين.. بعد أقل من 20 سنة على صدور وعد بلفور. ووصلت الأمور إلى مرحلتها الديموغرافية الحرجة مع نكبة عام 1948 وخسارة ما تبقى من أرض فلسطين عام 1967.

مع كل نكسة من هذه النكسات كان الحجم السكاني، ومعه النفوذ السياسي، لمسيحيي المشرق يتراجع حتى ما عاد في أرض فلسطين عُشر (واحد من عشرة) مسيحييها. إذ هاجر هؤلاء إلى مختلف أنحاء العالم، أساسا بسبب الاحتلال الإسرائيلي، ولكن أيضا لضيق سبل العيش وظلامية الأفق السياسي وتلاشي التسامح الديني في ما تبقى من أرض فلسطين. ولا شك أن بروز «حماس» قوة رئيسة في ساحة النضال الفلسطيني، بعدما لعب مسيحيو فلسطين أدواراً بارزة في تاريخها الوطني والنضالي، لا يبشر بمستقبل زاهر للأقلية المسيحية المتبقية هناك إذا قيض لـ«حماس» احتكار السلطة.

وفي العراق، مع نجاح إسرائيل وامتداداتها الأميركية في تفجير العراق من الداخل، وجعله بؤرة صراع سني ـ شيعي، وعربي ـ كردي ـ تركماني، ينحسر الوجود المسيحي العريق الضارب في عمق التاريخ بسرعة مخيفة.

أما في سورية ولبنان، حيث يفترض أن يتّعظ مَن شاهد الصورة القاتمة حوله، فنقرأ ونسمع مغامرين ومتآمرين يروّجون لمقولة «تحالف أقليات».

«تحالف» ضد مَن ومع مَن؟ إن وجود الأقليات المشرقية، مسيحية كانت أو غير مسيحية، لا مصلحة لها بالتورّط في مجابهات أكبر منها. لا مصلحة لها في أي فتنة تذرّ قرنها في منطقة يهدّدها صراع «أصوليات» لا يرحم.