اسطنبول

TT

سافر ففي الأسفار خمس فوائد/ تحصيل علم واكتساب معيشة علم وآداب وصحبة ماجد. لتلك الاسباب عزمت على السفر مع الماجد الاكبر في حياتي: الزوج الصديق الرفيق.

كنا على موعد مع اسطنبول: مدينة لها مكانة في الوجدان. ومكانة في الجغرافيا. فانت ان سكنت في فندق يطل على مضيق البسفور تسكن قطعة من اوروبا. ثم ترى الشمس تسطع من بعيد فوق نصف المدينة الواقع في اسيا. تفطر في اوروبا ثم تعبر الجسر لتتغدى في آسيا.

يقال ان المدن تشبه الناس الذين يسكنونها. واسطنبول تشبه ناسها فعلا. فإن تفرست في الوجوه لاحت لك قسمات تجمع بين الملامح الاوروبية والملامح الشرقية وبعض من ملامح الغزاة من الرعاة والخيالة الذين هبطوا من أواسط اسيا وحققوا انتصارات عسكرية مكنتهم من بسط النفوذ وبناء الامبراطوريات. هؤلاء كانوا ذوي بأس وبطش عسكري ولكنهم لم يكونوا ذوي حضارة. فاعتنقوا الاسلام والهمتهم حضارته وشهروا سيوفهم باسمه ولكن ظل فهمهم لسماحته منقوصا. وحتي وقتنا هذا تبقي التهم الموجهة إلى الاسلام والمسلمين تراثا خلفه الحكم العثماني في زمن الامبراطورية.

اسطنبول حديثة ومنظمة وفائقة النظافة ولكن سكانها السبعة عشر مليونا يدخنون كثيرا ولا يبتسمون الا قليلا. لا خفة دم ولا سرعة بديهة ولا ميل للدعابة أو تبادل النكات.

حين وصلنا كانت الاستعدادات على قدم وساق للاحتفال بالعيد القومي يوم 29 اكتوبر. وكانت صور كمال اتاتورك ترفرف في سماء المدينة على رايات علقت جنبا إلى جنب مع العلم التركي الاحمر الذي يتوسطه هلال ونجمة. وما زال اتاتورك ومعناها ابو الاتراك (رغم انه ولد في سالونيك اليونانية) هو البطل القومي الذي يروج له المؤرخون في اوروبا. في نظرهم هو بطل التحديث الذي بدل وجه تركيا ومحا كل اثار الحضارة الاسلامية وغير حروف اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية. خلع اخر السلاطين ثم احتل قصر دولما باهشي بدلا منه بكل ما تبقى فيه من بذخ. بريق الذهب يعمي الابصار والثريات التي يبلغ وزن احداها خمسة اطنان ونصف الطن صنعت من الكريستال الانجليزي الخالص. القصر به ما لا يقل عن ست أو سبع ثريات من هذا النوع ومثلها من الكريستال الفرنسي. قصر لا تنقصه الفخامة ولكن ينقصه ما هو اهم: الذوق الرفيع والاصالة.

خمسة عشر عاما من حكم اتاتورك بدلت وجه الحياة في تركيا. واستمر هذا الارث طويلا بعد موته مصابا بمرض الزهري. ولم يبق منه سوى وجه صارم يطل من اطار لوحة معلقة على جدران القصر ومن رايات ترفرف في سماء خريفية ملبدة.

تركيا اليوم تتمتع باقتصاد قوي قائم على الصناعة والانتاج الزراعي والسياحة. كل شيء يصنع في تركيا والكثير منه يصدر إلى الخارج ورغم مضي ثمانين عاما على اعتماد العلمانية ما زالت اسطنبول محتشمة في الزي والسلوك وما ان سنحت الفرصة حتي استقبلت المساجد المصلين بالآلاف لأداء شعائر صلاة الجمعة شيوخا وشبانا.

ورغم انصياع اتاتورك لطلبات المنتصرين ما زالت بوابات النادي الاوروبي مغلقة في وجه الاتراك. وتظل المساجد اهم معالم المدينة وتظل المفردات العربية حاضرة في لغة التخاطب في الفنادق والاسواق. طوال الزيارة سمعت بأذني ما شاء الله والحمد لله عشرات المرات.