الغزل التركي الإيراني

TT

من المؤكد أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي زار طهران على رأس وفد رسمي واقتصادي وإعلامي يضم أكثر من 150 شخصا نجح في لعب الورقة الإيرانية لتكون مركز توجيه رسائله الإقليمية والدولية الجديدة كما نجح في تذكير واشنطن والكثير من العواصم الأوروبية التي انتقدت هذه الزيارة أنها ملزمة لا مفر من الإصغاء إلى الآراء والنصائح التركية إذا ما كانت جادة فعلا في البحث عن حل للأزمة الإيرانية خارج خيار الحرب والمواجهة والتصعيد.

ولا يعود سبب نجاح أردوغان في الوصول إلى مرامه هذا حنكة وذكاء وتفوق الدبلوماسية التركية في الإمساك بالملف الإيراني والتلويح به في وجه الغرب وإسرائيل وحسب، بل ربما يكون السبب الأول هو تفكك الموقف الغربي نفسه وتشرذمه حيال سياسة موحدة منسقة في التعامل مع هذه المسألة وتسليم قطيع أغنامه إلى إسرائيل تسير به في الوديان السحيقة والجبال الصعبة التسلق. أما السيئ الثاني فهو موافقة طهران الضمنية على منح أنقرة مثل هذا الدور طالما أنه يوفر لها المزيد من الفرص والوقت للوصول إلى أهدافها وغاياتها.

أردوغان كرر من طهران أن تركيا متمسكة بلعب ورقة تحسين موقعها ودورها في الشرق ليكون فرصة لتعزيز فرص تحقيق حلمها القديم الالتحاق بالاتحاد الأوروبي وأنه لم يقصد العاصمة الإيرانية بصفة وكيل الدفاع عنها، بل لتذكير الغرب أنه يتحمل مسؤولية إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم بسبب سياسة الكيل بمكيالين والقياس بمقياسين في التعامل مع الموضوع النووي الإيراني. هو ينسى نفسه أولا ثم ينسى أو يتناسى إسرائيل ثانيا، لكنه لا يتردد في تذكيرنا أن ما تفعله إيران يهدد الموازنات والمعادلات في المنطقة وكأننا لا نعرف ذلك كما المح أردوغان.

رئيس الوزراء التركي انتقل إلى طهران للمغامرة بمقارعة الغرب في مشروع المضي بفرض العزلة والمقاطعة الدولية ضد إيران وهو لن ينكر ذلك طالما أن حبر الاتفاقيات والعقود التجارية والمالية التي وقعها بمليارات الدولارات لم يجف بعد، لكنه لم يتردد في مطالبة القيادات الإيرانية بالتخلي عن سياسة التصعيد والمضي في التحدي ليس استجابة لمطالب أميركا وأوروبا، بل حفظا لما تبقى من استقرار إقليمي يحاول البعض التلاعب به متذرعا بما تفعله وتقوله إيران.

حكومة رجب طيب أردوغان ومن خلال تحركها الأخير نحو إيران قالت للمرة الأولى أنها لن تشارك في أية حرب يريدها الغرب مع إيران وتكون وقودها إسرائيل هنا فهو عمل انتحاري جنوني باهظ التكاليف. لكنها لم تتأخر في القول أن جلب الدب النووي إلى كرم المنطقة على هذا النحو لن يفيد إيران وإسرائيل إلا إذا حمل لنا المستقبل مفاجآت وترتيبات إقليمية جديدة كان الروس السباقين في الحديث عنها ضمن مشروع تحالف شرق أوسطي جديد يكون لإيران وإسرائيل الكلمة الفصل فيه بسبب تفوقهما النووي وامتلاكهما لهذا السلاح!

لا نعرف بعد إذا ما كان إصرار أردوغان على حماية المقعد الإيراني الإقليمي أمام طاولة المفاوضات والمساومات الإقليمية والدولية وحق إيران في ذلك يعود إلى ضمانات وتعهدات إيرانية قدمت له حول مشروعها النووي وجوانبه السلمية، لكننا نعرف أن أردوغان نفسه سيصاب بخيبة أمل كبيرة إذا ما فاجأته إيران بمواقف غير التي سمعها في طهران وستكون الخيبة أكبر إذا ما ظهرت تركيا وكأنها تغاضت عن السياسة النووية الإيرانية مقابل عقود ووعود تجارية غير مضمونة النتائج.

أردوغان الذي ناقش مع حكومة نجاد مواضيع تتعلق بتنسيق المواقف في ملفات الأزمات العراقية والباكستانية والأفغانية والتي قادته بحماس إلى الإعلان من هناك عن توسيع رقعة مصطلح الشرق الأوسط الجديد ليضم دول جنوب آسيا والذي شكر القيادة الإيرانية على مساهمتها في إتاحة الفرصة أمام تركيا للدخول على خط لعبة الموازنات الدولية الجديدة في مسائل الطاقة، خصوصا في منطقة قزوين التي كانت حكرا على إيران والروس حتى اليوم لن يعتبر كل هذه التنازلات على أنها تراجع إيراني دون خدمات تركية تقدم بالمقابل، لكن ما يقلقنا هو أن يكون الثمن الذي سيدفع لاحقا ينطبق مع القول التركي المعروف الواقعية وحدها كانت ستحقق لك المستحيل.

سنعرف حتما في الأيام القليلة المقبلة وعلى ضوء موقف طهران من مسار عملية مفاوضاتها مع الأمم المتحدة وما ستضعه بين يدي المفتشين والمراقبين الدوليين من معلومات ومواد مطمئنة إذا ما كانت القيادة الإيرانية جادة في اعتماد مواقف جديدة أكثر مرونة وعملية تسهل لدول الاعتدال في العالم العربي المضي في سياسة تطويق وعزل إسرائيل أكثر فأكثر لكننا سنعرف أيضا إذا ما كان تحرك أردوغان الأخير هذا وتحت عنوان ضرورة مد اليد نحو إيران وتخفيف الضغوطات عنها سيعيدنا جميعا إلى نقطة الصفر أو خط البداية يعطي لطهران وتل أبيب حق التحرك المطلق على رقعة الشطرنج ويكون العرب والأتراك هم أول من يدفع الثمن.

* كاتب وأكاديمي تركي