معركة القلوب والعقول؟

TT

ما جرى مؤخرا في بغداد من تفجيرات مميتة لا يخص العراق وحدها ولكنه يشمل العالم العربي والإسلامي، وربما العالم كله، حيثما يوجد مسلمون. فجوهر العمليات الإرهابية التي حدثت هو أن جماعة صغيرة تنجح من خلال عمليات انتحارية غالبا في تفجير نفسها مع كمية هائلة من المتفجرات تدمر معها عددا هائلا من البشر، ومعهم بالطبع موارد مادية طائلة. وفي الحالة العراقية يمكن حساب النتائج السياسية بسهولة والتي تتمثل في الحواجز التي تقام بين أنصار المذاهب، والشك في التجربة السياسية العراقية، ومدى إمكانية استمرارها وصمودها، ووضع بذور للشقاق والتناحر والكراهية بين أقاليم وجماعات تحتاج أجيالا لإزالتها. ومن الممكن بالطبع إلقاء المسئولية على أطراف خارجية هنا أو هناك أمدت الإرهابيين بالموارد والأفكار، وربما حتى بالمعلومات والاستخبارات والأسلحة. ولكن كل ذلك لا يحل لنا المعضلة الكبرى، وهي أن جماعة بشرية من نوع ما قررت الانتحار والخلاص من الحياة، طالما أن ذلك سوف يؤدي إلى قتل أعداد غير قليلة من شركاء الوطن والدين وحتى المذهب.

مثل ذلك لا يمكن أن يحدث ما لم يجر تحول جوهري داخل عقل وقلب الفرد الذي يقوم بالعملية الانتحارية يقوم على الاستعداد للتخلص من الحياة وهي التي يجب أن يحافظ عليها، ويبدو أن هناك تحولا ما يجري داخل هذا الإنسان من شأنه أن يقطع الوشائج التقليدية للأسرة والعائلة، والسعادة في الدنيا، والتي تجعل الإنسان يسعى للبقاء، بل ويحارب من أجل المحافظة عليه، سواء جاء ذلك من مرض أو من معتد. فالأصل في الموضوع أن الإنسان يولد لكي يعيش ويتكاثر ويحافظ على النوع، ويعمر الأرض ويضيف إليها، وعندما تنتفي هذه الدوافع الغريزية، أو الطبيعية إذا شئت، فإننا نصبح أمام عملية تحول جراحية داخل النفس البشرية. المعضلة الأكبر أنه تجري عملية انقطاع كاملة بين الإنسان الانتحاري وأخيه الإنسان، فالأصل في الموضوع أن الله خلقنا وهناك آلية داخلية من «الرحمة» والشفقة والخوف من وقوع الألم والأذى على الآخرين، وجاءت الأديان السماوية ومن بعدها القوانين الوضعية لكي تؤكد وتحث عليها، حتى أنها تفرض درجات متفاوتة من العقاب على من لا يلتزم بها. مثل ذلك لا يحدث أبدا مع الإرهابي الانتحاري الذي فضلا عن استهانته بحياته، فإنه لا يوجد في العقل والقلب ما يرده عن الاستهانة بحياة الآخرين وما يقع عليهم وأسرهم من أذى أو ألم. وبشكل ما، وفي أفضل الأحوال فإن هؤلاء الآخرين يتحولون بالنسبة للإرهابي إلى مجرد أشياء أو عقبات تقف أمام تحقيق هدف يكون غامضا في أفضل الأحوال.

في مثل هذه الأحوال تنتفي العلاقة تماما ما بين «الانتحاري» والعالم الذي نعرفه، وللأسف فإنه لم تجرِ دراسات كثيرة تدلنا على عملية التحول في القلوب والعقول التي تحول إنسانا بعينه إلى سلاح مدمر لنفسه، وشعبه، وعدو من نوع أو آخر، يكون على الأرجح من أقرب الأقرباء. وفي علم النفس، وفي علوم المخابرات فإن هناك فصولا كثيرة حول عمليات «غسيل المخ» التي تجري لأفراد بعينهم من أجل دفعهم دفعا للقيام بمهام وواجبات بعينها، ولكن نادرا ما كانت هذه المهام تتضمن قتل هذا الفرد ذاته.

وفي أحيان أخرى كان ممكنا في مناسبات وطنية وفي معارك التحرير أن يضحي كثيرون بأرواحهم من أجل وطن أو عقيدة، ولكن هذه التضحية لم تكن أبدا متعمدة، وإنما كانت جزءا من معركة تتناقض فيها المصالح إلى درجات حادة. أما في حالة الانتحاري فإنه لا يدخل إلى معركة يموت فيها، أو تضيع حياته أثناء ممارسته لعملية عسكرية ذات طبيعة خاصة تكون جزءا من حرب تتحول إلى معارك وعمليات متعددة، فما يحدث عادة لا يكون له هدف استراتيجي أو تكتيكي محدد، وإنما هو عملية واسعة للإيذاء والقتل الجماعي بلا هدف واضح أو ضرورة عسكرية محددة.

أهمية الموضوع هو أنه يجري بطول العالم العربي والإسلامي وعرضه، وهناك آلة جهنمية تعمل من أجل غسل العقول والقلوب وتحويلها إلى صناديق مغلقة، أو أجزاء متحجرة، وكل ذلك باسم الدين الإسلامي، مع اعتقاد ويقين بأن ما يعتبر جريمة في عرف الأديان والتقاليد هو في حقيقته الطريق الممهد إلى الجنة. وما حدث في العراق مرارا وتكرارا حدث بحذافيره في باكستان، وأفغانستان، وبعض منه يجري في اليمن حاليا، وفي العادة فإن العملية تبدأ بفرض قدر كبير من العزلة على أفراد لهم مواصفات خاصة مثل الشعور بالوحدة أو الاغتراب أو البعد عن الأسرة والعائلة، وبالطبع عن كل وسائل الإعلام والمعرفة الحديثة. وبعد ذلك تبدأ عملية جراحية نفسية وعاطفية يشعر فيها الشخص بالزهد في الحياة، وبالأسى لما وصلت إليه من انحطاط مادي ومعنوي، حتى تتكون لديه رغبة عارمة للخلاص الذاتي بالقيام بالعملية الانتحارية، مقترنة برغبة في الانتقام من هؤلاء الذين باتوا من وجهة نظره مسئولين عن الحالة التعيسة للبشرية بما يقومون به أو بصمتهم عما يقوم به الآخرين. هذه المسئولية لا يجري أبدا التحقق منها، فقد جرت عمليات انتحارية في قاعات طلبة يؤدون الامتحانات السنوية، كما جرت عملية على الأقل في واحدة من غرف الطوارئ في مستشفى لا يوجد فيها أحد سوى المرضى، وفي أخرى كانت في جماعة تتناول الغذاء وهي في طريقها لزيارة عتبات مقدسة.

الخطر والتحدي هكذا يتعدى بكثير الحالات العراقية أو الباكستانية أو الأفغانية، بل هو يجري على قدم وساق في دول عربية وإسلامية كثيرة، ومن ثم لا يمكن مواجهته إلا من خلال عملية معقدة، جرت العادة أن يتم التركيز فيها على الجانب الأمني للقضية، من أول الحصول على المعلومات ومتابعة الإرهابيين وأموالهم وأماكن الإيواء التي يلجأون إليها، وهكذا. ولكن ذلك ليس كافيا لأن الأرض التي صنعت الإرهابيين لا تكف عن إنتاجهم، وهذه الأرض ليس لها علاقة بفقر الإرهابيين أو غناهم لأن أغلب ضحاياهم من الفقراء، وليس لها علاقة بالعلمانية أو العلاقة مع الغرب لأن أغلب الضحايا من المؤمنين، ولا علاقة للأمر بإسرائيل أو أمريكا، لأن أغلب الضحايا من العرب والمسلمين.

الأرض هنا موجودة في القلوب والعقول التي تتلقى رسالة عن الدين الإسلامي مشوهة إلى الدرجة التي تحدث تحولات جراحية في نفسية الانتحاري حتى يعتقد عن يقين أنه من الشهداء. مثل هذه الحالات لم تحدث فجأة، ولكنها تحدث عبر عملية طويلة الأمد شككت في نوعية وأصالة الرسالة التي توجهها المؤسسات الدينية، ونتيجة سلسلة طويلة من الكتب والشرائط والرسائل التي أخذت من سيد قطب ومن هم على شاكلته ومذهبه مع درجة متزايدة من التسطيح والغلو والتطرف. وما يحتاجه العالم الإسلامي أن يعكس العمل في هذا الاتجاه، بحيث يتم إعادة الدين الإسلامي إلى اعتداله ووسطيته الأولى، بحيث تتفتح ينابيع التسامح والاعتراف بالآخر أو ببني آدم الذي كرمه الله على العالمين. وهذه بدورها عملية شاملة تكون بدايتها بالمؤسسات الإسلامية الرسمية والتي تسللت إليها خلال العقود الأخيرة تيارات رجعية ومتشددة وفيها من الغلو والتطرف ما يكفي لوضع الأساس لما أشرنا له من أعمال. وفي كثير من حالات الإرهابيين نجد أن الولادة الأولى لها كانت في حاضنة مسجد كان فيه عالم أو داعية متطرف.

ولكن هذه المؤسسات ليست وحدها التي تحتاج إلى إصلاح، وإنما المدارس بل والتعليم كله بما فيه من مناهج دينية أو أخلاقية جاء فيها الكثير من دروس الاستبعاد والاستئصال لكل من لا يوافق على أكثر الأفكار تعصبا. وأخيرا تأتي الأدوات المثيرة للإعلام والتي بدأت تظهر فيها صور للدين الإسلامي مشتقة من أكثر صور العقيدة انحرافا عن الطريق القويم، حيث يسعى إلى العزلة بينما الإسلام يسعى إلى الانتشار والتواصل، كما يرفض الآخرين بينما يحثنا الدين على التعامل. وببساطة فإن ما نحتاجه ليس تجديد الدين الإسلامي كما يقال، وإنما إعادته إلى سماحته الأصيلة.