لأول مرة: السادات!

TT

كان في أسانسير «أخبار اليوم» أنا نازل ونائب الرئيس عبد الناصر طالع. قال وكانت مفاجأة: أنت أنيس.. أنا قرأت لك ما كتبته عن بوذا وكونفوشيوس. فشكرته. واتجهت إلى الباب. عندما ناداني عامل الأسانسير: سيادة النائب عاوز يكلمك!

ورجعت خجلان.. واعتذرت فلم أتصور أنه يريد أن يلقاني. وظل يتكلم في الأسانسير. وكان يتكلم بصفة الأمر. وكان صوته مليئا ثم إنه يضغط على الحروف ويوجه لي كلماته مباشرة. وبعد ذلك تشعر بأنه رجل ودود.. وأنه من الممكن أن يكون صديقك.

ودخل غرفة الكاتب الكبير مصطفى أمين الموجود في السجن. وجلس على مكتبه.. شيء غريب، فلم نكن نتصور شيئا من هذا. ثم أنهم غيروا له موقع المكتب فجعلوه على اليسار بدلا من أن يكون على اليمين. وجلس أنور السادات بدلا من مصطفى أمين وطلب مني أن أكتب صفحة أدبية.

وذهبت إلى موسى صبري رئيس تحرير «الأخبار» قلت: يا موسى النائب طلب مني أن أكتب صفحة أدبية ابتداء من هذا الأسبوع. فسألني إن كنت أريد أحدا معي. فقلت: لا.. أكتبها وحدي..

وموسى صبري كان قد دخل السجن مع أنور السادات..

وصدرت الصفحة الأدبية بعد يومين. وأدهشني أن يطلبني أنور السادات ويقول: أهنئك يا أنيس.. الصفحة بديعة وأنت كمان بديع يا أنيس!

ما هذا الكلام. لم أسمع شيئا من ذلك في حياتي ومن أحد على هذا القدر وفي هذه المكانة. وكيف اتسع وقته. وكيف يهمه الأدب. إنه رجل سياسة. إن الشيء الوحيد الذي طلبه مني هو هذه الصفحة. ولم يشأ أن يطلب شيئا آخر..

وقد جاء أنور السادات بعد أن شكونا من الشيوعيين الذين بهدلوا «أخبار اليوم». وأتوا فيها بكُتّاب شيوعيين من مصر وخارجها. وكان حزننا عظيما على ما أصابنا من هؤلاء. وجاءنا أنور السادات ليصلح ما أفسده الشيوعيون: خالد محيي الدين والحواريون الذين لا خبرة لهم بالصحافة. وكنت أعرف منهم الأستاذ محمود أمين العالم الذي تخرج في قسم الفلسفة. وكان يسبقني بعام. ونحن طلبة انقسمنا على بعض هو شيوعي وأنا وجودي ولم نتفق لا في الجامعة ولا خارجها.

ولما ذهبت أزور محمود أمين العالم رئيس مجلس إدارة «أخبار اليوم». فوجدته قد وضع المصحف أمامه. وقلت له: يا محمود إيه ده؟ قال: مصحف. قلت: لكي يراه العمال؟ قال: لكي يراه ربنا!

وكتبت مقالا ضايقه. فحكيت أننا عندما كنا طلبة، كان يأتي بزميل ثالث ويمسك يدي وراء ظهري ويوجهني إلى الشمس ويقرأ إحدى قصائده. عذاب. فغضب محمود أمين العالم مع أنها ذكريات تضحك الناس عليها!

وبعد ذلك رأيت السادات ألف مرة..