واشنطن تتساءل عن الهدف من الوجود العسكري في أفغانستان

TT

قد تنتج عن التطورات الأخيرة في أفغانستان عدة سيناريوهات، فاللعبة السياسية الجديدة على وشك أن تبدأ الآن، مع عودة حامد كرزاي رئيسا لخمس سنوات مقبلة، لأنه لا منافس بقي في وجهه.

الغريب في معمعة «الفشل الذريع» في إجراء دورة انتخاب رئاسية ثانية، كان تراجع الحديث عن خطر «طالبان» و«القاعدة». جرى تجاوز خطرهما قبل ذلك أيضا، على الرغم من كل العمليات الإرهابية، والمتفجرات المزروعة في كل المناطق التي تحصد جنودا أميركيين وبريطانيين، إضافة إلى مدنيين أفغان.

جرى تجاوز ذلك الخطر من خلال مقال نشرته صحيفة «النيويورك تايمز» الأسبوع الماضي، وفيه أن والي كرزاي شقيق الرئيس الأفغاني هو على جدول المتلقين أموالا من «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية وهو ضالع أيضا في تجارة المخدرات. كان الغرب في انتظار قرار المرشح المنافس عبد الله عبد الله، وبدا نشر ذلك المقال في ذلك التوقيت، كأنه للضغط على كرزاي وبأن وسائل تشويه سمعته هي أبعد من ممارسته التزوير في الانتخابات. ردة فعل كرزاي أنه رفض فكرة إنقاذ دول الحلف الأطلسي من عبء إجراء دورة ثانية، وأصر على رفض أن يشارك عبد الله في أي حكومة مقبلة.

أما سقف المعركة الأعلى فكان مع واشنطن، إذ رد عبر وزير مكافحة المخدرات الأفغاني الجنرال خودايداد خودايداد على ما جاء في مقال «نيويورك تايمز» كاشفا عن دور للقوات الأطلسية في تجارة المخدرات. قال الوزير: إن جنودا من تلك القوات، وبالذات من الأميركيين والبريطانيين والكنديين، يفرضون ضريبة على إنتاج الأفيون، كأنه يتهمهم بأنهم يشجعون على زراعة المخدرات وإنتاجها مقابل الملايين من الدولارات.

ظاهريا، قد لا تغير عودة كرزاي شيئا، فهو كان رئيسا لأفغانستان قبل انتخابات شابها التزوير والفوضى والإطالة في إعلان النتائج، وعاد الآن متلقيا تهاني المجموعة الدولية.

لكن، في الواقع، فإن كرزاي وبسبب تفكيره يرى أن نتائج الانتخابات الأولى، لم تكن مزورة، وأنه فاز عن جدارة، وسيشعر بعد تراجع الغرب عن إجراء دورة ثانية، لأن عبد الله انسحب، بأنه عاد إلى الرئاسة بقوته، وبعد أن تحدى كل تمنيات الغرب خصوصا لناحية إجباره على أن يشرك عبد الله في السلطة. من دون محاولات الغرب، كان كرزاي يشعر بأن عبد الله سيكون بمثابة شوكة في خاصرته، وإشراكه في الحكومة سيزرع القلق الدائم في قلبه، ثم إن كرزاي لا ينقصه دعم القبائل الأخرى من غير الباشتون، فهو على علاقة شراكة مع قادة سابقين لـ«المجاهدين» مثل الرجل القوي محمد فهيم (وزير الدفاع السابق) وكريم خليلي، وإسماعيل خان، ورشيد دوستم ومحمد محقق.

بالنسبة إلى الغرب كان الدعم لأفغانستان خلال السنوات الثماني السابقة، قائما على العمل للوصول إلى حكومة دستورية وتطوير الديموقراطية. بعد التجربة الأخيرة لا يمكن للمجموعة الدولية أن تدعي ذلك أو حتى الادعاء بأنها تحترم القانون والدستور في أفغانستان، ذلك أن إعلان لجنة الانتخابات المستقلة كرزاي رئيسا، كان خرقا للدستور. اللجنة أساءت تفسير القانون الذي تستمد سلطتها منه. فالقانون ينص على إعلان الفائز في الانتخابات بعد إجرائها. وبالتالي لا يمكن للجنة أن تقرر من ذاتها. ثم هناك أمر آخر، فإن نتائج الدورة الأولى من الانتخابات، كادت أن تصل إلى دورة ثانية، ليس بسبب نقص في عدد المقترعين، بل لأن جماعات المرشحَين مارست التزوير، وبالتالي لو نجحت الوساطات في دفع كرزاي وعبد الله لتشكيل تحالف بينهما لكان تحالفهما مشوه السمعة بسبب التزوير.

أما بالنسبة إلى شرعية الحكم، فقد أثارته عن قصد بعض العواصم الغربية من أجل تليين موقف كرزاي سياسيا، الآن بعد «إعلان النتيجة» لن تستطيع واشنطن على الأخص أن تقول له، إنك حصلت على ما تريد، حاول أن تجد دورا لعبد الله. سيحاول كرزاي تهميش فاعلية الضغوط الدولية، فهذه الضغوط دفعته إلى قبول دورة ثانية، والضغوط نفسها مورست لعدم إجراء دورة ثانية، إذن، لن تستطيع أن تدفعه لاستيعاب عبد الله، وانسحاب عبد الله من الساحة السياسية لن يؤدي أبدا إلى حرب ما بين الباشتون والطاجيك. ولا بد أن الغرب أو بعضه، صار يعي حساسية هذه المسألة، ففي أفغانستان هناك دائما شكوك بأن القرارات الأساسية تُتخذ في الخارج، وفي وقت يريد الأفغان أن تكون لحكومتهم علاقات جيدة مع المجموعة الدولية، فإنهم يريدون دورا لهم في القرار. وإذا طالب الغرب بدور لعبد الله فإنه يحرجه.

عندما «أعيد» انتخاب كرزاي أصدرت السفارة الأميركية في كابول بيانا أكدت فيه التزام أميركا بمساعدة الشعب والمؤسسات الأفغانية، كما هنأت كرزاي بفوزه «ونتطلع للعمل معه».

من المحتمل جدا أن يتجاوب كرزاي مع بيان السفارة، لسبب وحيد هو وجود السفير (الجنرال المتقاعد) كارل إيكنبري. فهو لن ينسى الضغوط التي مارستها عليه الخارجية الأميركية للقبول بدورة ثانية، كما لن ينسى ضغوط السناتور جون كيري، ففي النهاية كرزاي يعتبر نفسه زعيما قبليا، والتراجع بالنسبة إليه بمثابة الإهانة. كما أن المبعوث الخاص لخطة «أفغانستان ـ باكستان»، ريتشارد هولبروك لم يعد مرحَّبا به في كابول. إذن الفائز الوحيد في إدارة أوباما من هذه «المعمعة» هو وزارة الدفاع. فالوزير روبرت غيتس ظل بعيدا، ربما كان يعرف أن الضغوط الخارجية في شأن داخلي أفغاني ستعقّد الأمور، وقد يكون فضل البقاء بعيدا عن المناورات السياسية لمعرفته بأن الرئيس أوباما سيكون في حاجة إلى التعاون مع كرزاي لاحقا، إذ لو جرت دورة ثانية، لكان الفائز كرزاي نفسه. وبدوره يمكن لغيتس الاعتماد على السفير إيكنبري، فهو بسبب معرفته أفغانستان كجنرال، وشارك في الحرب هناك قبل التقاعد، ارتبط بعلاقات مع أمراء حرب أقوياء مثل الجنرال فهيم الذي كان وزيرا للدفاع في حكومة كرزاي، ثم إن إيكنبري يعرف جيدا التقاليد والثقافة الأفغانية، وهو خريج جامعة هارفارد. وعندما عُيّن سفيرا لبلاده في شهر أيار (مايو) الماضي كانت العلاقة بين واشنطن وكرزاي قد بدأت تهتز، الآن يستطيع إيكنبري وبتنسيق مع غيتس وضع خطة إعادة بناء الجسور مع كرزاي، ودفعه بطريقة «ديبلوماسية» إلى العمل من أجل مواجهة الفساد، والإتيان بوجوه جديدة نظيفة إلى الحكومة مما يسهل الأمر على الرئيس أوباما الذي لا يزال يدرس خيارات المرحلة المقبلة من الحرب في أفغانستان.

صحيح أن بقاء كرزاي لن يغير في حسابات أوباما، إنما سيجعله يدرك صعوبة الأوضاع.

المراقبون يتوقعون أن يصدر القرار الأميركي المتعلق بأفغانستان خلال عشرة أيام. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دوائر سياسية كثيرة في واشنطن صارت تتساءل بصراحة عن المصالح الأميركية في أفغانستان، وهل الأميركيون هناك للدفاع عن تلك المصالح، أم للدفاع عن باكستان؟ والنقاش الدائر حاليا لا يتعلق فقط بعدد القوات الإضافية وميزانيتها، وليس فقط حول الاستراتيجية، بل حول قدرة أوباما على تحديد المصالح الأميركية في تلك المنطقة من العالم، وعندها يتم نشر القوات في ظل الاستراتيجية الفاعلة وتحقيق النتائج المرجوة منها على الأرض. ولأنه لا يمكن الانتصار عسكريا، فإن الاستراتيجية الجديدة تعتمد على حكومة ذات مصداقية في أفغانستان، ليس فقط على صعيد المستوى الدولي، بل على الصعيد المحلي، لهذا ستُمارَس ضغوط جدية على كرزاي لإقامة إدارة قوية، ليس بالضرورة حكومة وحدة وطنية، فهذه ستكون وصفة تقسيمية، لأن أعضاءها قد يتصارعون في ما بينهم، بل معادلة لحكم أفضل في كابول.

السؤال الكبير: كيف سينظر «طالبان» إلى التطورات السياسية الأخيرة؟ من الأهداف البعيدة لواشنطن الوصول إلى «الفريق المقبول» في «طالبان». للرئيس كرزاي شركاء يتعاملون مع «طالبان»، وشقيقه والي كرزاي قد يكون من أبرز السياسيين الأفغان ممن هم على علاقة بعدد كبير من «طالبان»، الذين إذا جلبهم إلى المسرح السياسي، يسهّل على أميركا عزل «الفريق المتطرف» في «طالبان» مثل «مجلس شورى كويتا» و«شبكة حقاني».