جيش خاص لكل حزب عراقي

TT

جاءت التفجيرات الانتحارية التي شهدتها بغداد، الأحد، وتسببت في مقتل أكثر من 150 شخصا، لتذكرنا بقسوة إلى أي مدى لا يزال الطريق طويلا أمام العراق لتحقيق الأمن. ورغم أن الأوضاع في مجملها تحسنت كثيرا عما كانت عليه منذ بضعة سنوات، تبقى مهمة كبرى أمامنا، وهي اكتساب ثقة الشعب في قوات الأمن العراقية.

بين عامي 2005 و2008 توليت منصب عمدة تل عفار، مدينة تتبع محافظة نينوى، شمال العراق، والتي أصبحت نموذجا لاستراتيجية «طهّر وسيطر وابنِ» التي يعود إليها الفضل في إحداث تحول جوهري في مسار الحرب. في بعض جوانبها تحمل قصة تل عفار دلائل مفيدة على صلة بما نشهده اليوم في العراق على مستوى أوسع.

عام 2004 مُنيت تل عفار بمتمردين وإرهابيين، جراء إهدار فرص واتخاذ قرارات خاطئة من قبل كلتا الحكومتين الأميركية والعراقية، إلا أنه مطلع عام 2005 اتصل بي العقيد إتش آر مكماستر، القائد العسكري الأميركي المبدع (ويحمل حاليا رتبة بريغادير جنرال)، واتفقنا على ضرورة تركيز الجهود الأمنية على كسب ثقة أفراد الشعب، وليس قتل العدو فحسب. وبالفعل شرعنا في العمل على بناء جسور التعاون مع المواطنين.

كانت أولى الخطوات على هذا الصعيد خروج القوات الأميركية والعراقية من قواعدها ونقلها إلى العمل طوال الوقت داخل ضواحي المدينة. وإدراكا مني بأن قوة الشرطة المحلية تهيمن عليها مجموعة عرقية ـ طائفية معينة ويعمد أفرادها إلى أبناء الديانات والأعراق الأخرى، حرصت على فصل أي ضابط شرطة له سجل في العنف أو التورط في أي ممارسات أخرى تتنافى مع المهنة. بعد ذلك عينت ضباطا ينتمون إلى مجموعات عرقية أخرى، ودمجت الوحدات كافة. وبذلك عمل الشيعي إلى جانب السني، والتركماني والكردي مع العربي.

إضافة إلى ذلك، وجّهنا اهتماما جديدا إلى تلبية احتياجات أبناء الشعب، ليس الإبقاء عليهم آمنين فحسب وإنما كذلك محاولة تجنب وقوع أعمال عنف من خلال العمل على تشجيع المجموعات المختلفة داخل المدينة على التواصل بعضها مع بعض. وانطلقت جهودنا من قناعتنا أنه بمجرد فوزنا بثقة واسعة النطاق في حيادنا، يمكننا ضمان مسارعة أي مقيم بالمدينة يلحظ أمرا مريبا إلى إبلاغ السلطات.

من جهتها، يتعين على الحكومة العراقية تطبيق المبادئ ذاتها على قوات الأمن القومي، بالنظر إلى أن المؤسسة العسكرية وجهاز الشرطة لا يزالان يحملان طابعا سياسيا قويا. على سبيل المثال، يخضع مسؤولو الشرطة وحماية الحدود في معظمهم إلى المساءلة من قبل وزارة الداخلية، التي يجري النظر إليها بدورها باعتبارها أداة في أيدي الحركات السياسية الشيعية (اعتقاد صائب في أغلب الأحيان). والملاحظ أن أعضاء قوات الأمن غالبا ما لا يبدون ولاءهم للدولة، وإنما للشخص أو الحزب السياسي الذي وهبهم وظائفهم.

وينطبق الأمر ذاته على الكثير من قطاعات الجيش العراقي، مثلا، تخضع الفرقة الخامسة من الجيش العراقي، المتمركزة في محافظة ديالى إلى الشمال الشرقي من بغداد، لنفوذ «المجلس الإسلامي الأعلى»، وهو حزب شيعي يشكل التكتل الأكبر في البرلمان. بالمثل، تخضع الفرقة الثامنة في الديوانية وكوت، جنوب شرقي العاصمة، في معظمها لسيطرة «الدعوة»، وهو الحزب الشيعي الذي يتبعه رئيس الوزراء نوري المالكي. أما الفرقة الرابعة في محافظة صلاح الدين، شمال العراق، فتحالفت مع واحد من أكبر حزبين كرديين، «الاتحاد الوطني الكردستاني».

أخيرا، اكتسب «مؤتمر الصحوة العراقي»، وهو حزب سياسي قبلي يتركز في محافظة الأنبار (حيث انقلب أبناء القبائل السنية، الذين يطلق عليهم «أبناء العراق»، على حركة التمرد خلال الفترة التي شهدت زيادة أعداد القوات الأميركية بالبلاد)، نفوذا كبيرا على الفرقة السابعة من الجيش العراقي، التي شاركت على نحو مكثف في تجنيد عناصر سنية لجهود الحفاظ على الأمن عام 2006.

وتتحمل هذه الانقسامات السياسية جزءا من المسؤولية عن الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها البلاد مثل تلك التي وقعت الأحد أو الأخرى التي يطلق عليها تفجيرات الأربعاء الدامي في 19 أغسطس (آب)، والتي تجاوز عدد قتلاها 100 شخص. ترمي هذه الهجمات إلى سحب البساط من تحت أقدام المالكي تمهيدا لانتخابات يناير (كانون الثاني). الملاحظ أن المالكي، من ناحيته، عمد إلى استغلال المكاسب الأمنية التي تحققت العامين الماضيين كبطاقة سياسية رابحة لديه، وهي استراتيجية منحت «الدعوة» مكاسب كبرى في الانتخابات المحلية فبراير (شباط) الماضي. إلا أنه حال تفاقم الهجمات ضد الحكومة، سيحرص خصومه على استغلالها لتحطيم الزخم السياسي الذي يتمتع به حزب الدعوة.

بيد أنني لا أرمي من وراء قولي هذا التلميح إلى أن الأحزاب السياسية متورطة على نحو مباشر في تلك الجرائم، وإنما أرى أن النفوذ العرقي والطائفي للأحزاب السياسية على قوات الأمن ييسر بصورة غير مباشرة على أعداء العراق مهمة ارتكاب مثل هذه الهجمات.

* زميل «مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية» بجامعة الدفاع الوطني في واشنطن، وتولى منصب عمدة تل عفار في العراق

بين عامي 2005 و2008.

*خدمة «نيويورك تايمز»