كيف عرفت أنها كذبة؟.. من طولها وعرضها

TT

دار النقاش في ذلك اليوم البعيد في ندوة نجيب محفوظ بكازينو قصر النيل عن نهر صناعي كبير شقته حكومة عربية تحت الأرض في الصحراء وسارت فيه المياه في مواسير عملاقة لمسافة 1400 (ألف وأربعمائة) كيلومتر. كان الحديث يدور بمناسبة انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، والاحتفال بوصول المياه قاطعة كل هذه المسافة في حضور عدد كبير من الملوك والرؤساء والشخصيات العامة، حيث شاهد سكان الأرض المياه وهي تتفجر أمام الكاميرات قادمة من باطن الأرض في تلك العاصمة العربية. ندوة الأحد عادة أقرب إلى احتفال نستمتع فيه بالجلوس معا ومع الأستاذ نجيب، والنقاش لا تحكمه قواعد أو ترتيبات، الكل يتكلم معبرا عما يجيش في صدره، ولم تكن الندوة تعرف الحدة أو الخروج عن المألوف إلا في القليل، وربما كان أشهر هذا القليل هو عندما تكلم الناقد أحمد عطية ـ رحم الله الجميع ـ معلقا بحدة على موقف الأستاذ المؤيد لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وطارت منه بعض الكلمات المنفلتة فرد عليه الأستاذ بتلك الجملة الشهيرة التي تصلح قاعدة ذهبية لكل نقاش: ناقشني.. ما تشتمنيش.

نعود إلى النهر العظيم، كانت أخباره وصوره وخاصة المواسير العملاقة تملأ كل الصحف والمجلات فقلت معلقا: أيها السادة.. لا يوجد نهر عظيم أو غير عظيم.

الجملة أحدثت صدمة بين الحاضرين فارتفعت الصيحات: ماذا..؟.. وهؤلاء الرؤساء والملوك الذين شاهدوا وشهدنا معهم المياه الخارجة من بطن الأرض؟ وهذه الحملة الإعلامية الهائلة التي تحتل كل وسائل الإعلام؟ وهذا الجيش العرمرم من الإعلاميين الذي شاهد الحدث؟.. كل ذلك.. ثم تأتي حضرتك لتقول إنه وهم..؟

فقلت: لا ليس وهما.. المشروع حدث بالفعل في أجهزة الإعلام فقط.. حدث من خلال الكاميرات والميكروفونات وأحبار الطباعة.. ولكن لم يحدث أن مواسير عملاقة تتحمل دخول عربة نقل كبيرة فيها، لم يحدث أنه تم شق الأرض لدفن هذه المواسير في باطنها لمسافة 1400 كيلومتر.. هذا الأمر يتطلب سنوات طويلة على الأقل لتعبيد طريق داخل الصحراء ثم إنشاء عشرات المواقع عليه للإمداد والتموين وعمليات الصيانة، هناك عشرات المشاريع المطلوب تنفيذها قبل العمل الفعلي في مد المواسير.. هل سمعتم عن شخص في السنوات السابقة قال إنه يعمل في مشروع النهر العظيم..؟ هل سمعت شخصا يقول لشخص آخر.. ما تعرفش والنبي حد يشغلني في النهر العظيم.. هل قرأتم في باب شكاوى القراء شكوى من قارئ يشكو فيها المعاملة السيئة التي عومل بها في النهر العظيم..؟ نعم شاهدنا المياه على شاشات التليفزيون، ولكن لا أحد اهتم بتصوير المنشآت في المنبع بماكيناتها وآلاتها العملاقة القادرة على شفط المياه ثم دفعها لهذه المسافة.. من المعروف عن بعض الأشخاص والأنظمة أيضا أنهم (يعملون من الحبة قبة) فلماذا عكسوا الآية هذه المرة، لماذا عملوا من القبة حبة؟ لماذا لم يهتموا إعلاميا بالمشروع في مراحله المختلفة، هل تذكرون مراحل إنشاء السد العالي، كان هناك حديث كل يوم عن المرحلة التي تم الانتهاء منها، بل إن دور السينما كانت تعرض أفلاما قصيرة أسبوعيا عن المشروع تحت عنوان «مذكرات مهندس»، لم تكن مصر قد عرفت بعد كاميرات الفيديو.. الأنظمة الثورية بالتحديد حريصة على أن تجعل من الحبة قبة، لماذا هذه المرة قُزّمت هذه القبة وجعلت منها حبة؟ أليست الإجابة هي أن القبة نفسها لا وجود لها.

انتهت الندوة، وانصرف الأستاذ إلى منزله، ومضينا نحن في طريقنا لتناول الفول والطعمية في مطعم «الجحش» بحي السيدة زينب، هو مطعم شعبي يجلس زبائنه على الرصيف غير أنه يعتبر أحد المزارات السياحية، أنا أعتقد أن ميزته الوحيدة هو أن صاحبه فخور باسمه لدرجة أنه رسم جحشا على لافتة المحل المضيئة، وربما كان سبب إقبال الناس عليه هو شجاعة صاحبه في إعلان ما يخفيه الآخرون. ومع الفول والطعمية والسلطات تجدد الحديث عن النهر، شاب صغير كان يجلس بالقرب منا تدخل في الحديث وقال: حضراتكم بتتكلموا عن النهر العظيم..؟ لأ طبعا ما فيش حاجة من دي.. يا سادة، مد المواسير تحت الأرض مهنتي، وأنا أعمل الآن في مد المواسير في مدينة نصر لمسافة 800 (ثمانمائة) متر فقط.. شوفوا..

وهنا أخرج من جيبه رزمة من الصور الفوتوغرافية وواصل: لقد حرصت على تصوير كل مرحلة من مراحل العمل.. أين هي مراحل العمل في هذا المشروع؟

بعدها بيومين اتصلت بي زميلة وقالت لي إن الدكتور أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس حسني مبارك يريد أن يراك في جلسة شاي في الكافتريا التي تسهرون فيها بعيدا عن الرسميات والمكاتب. وهو ما حدث بالفعل، هكذا زارنا الدكتور أسامة في حديقة السطح في كافتريا أوديون. ضمت الجلسة عددا من المثقفين وكان سؤاله هو: كيف تقول إنه لا يوجد نهر عظيم.. ما هو دليلك على ذلك؟

وكانت إجابتي: الشعب المصري ككل الشعوب القديمة، عبر آلاف السنين من التجارب استطاع تلخيص مناهج التفكير عند البشر في مقولات موجزة وسريعة هي أمثلته الشعبية، ودليلي هو ذلك المثل الذي يقول: عرفت إزاي إنها كذبة..؟ فقال.. من طولها وعرضها.

رجل الدولة بالطبع يتعامل مع المعلومات فقط وليس الشائعات أو الاستنتاجات أو الحدس الإنساني أو السياسي، بالتأكيد الدكتور أسامة كانت لديه معلومات عن المشروع من مصادره المتعددة، وعلى الأرجح كان يريد التعرف على منهج التفكير عند كاتب فكاهة شعبية الذي جعله محصنا ضد آلة الإعلام الضخمة، هل هو شكاك بطبعه أم أن لديه ما يعزز هذا الشك؟

ومرت أعوام طويلة قبل أن نقرأ هذه الأيام أن الدولة صاحبة النهر العظيم تفكر في شراء الماء من مصادر أخرى. خذها منى قاعدة صحيحة يا صاحبي، كل الأفكار شديدة الطول عظيمة العرض ليست إلا كذبة، صاحبها على وعي بأنها كذبة وبذلك يكون مسئولا عنها. غير أن هدفي من هذا الكلام ليس سياسيا بأي حال، أي إن اهتمامي ليس منصبا على إيضاح أخطاء بعض الحكومات العربية أو كلها، أنا فقط أورد بعض الوقائع القريبة والبعيدة لأقنع الأجيال الشابة من العاملين في الصحافة وأجهزة الإعلام أن الصدق مع النفس ومع الناس ليس ترفا بل هو دفاع عن النفس والجماعة، وأن الحقيقة ليست سؤالا اختياريا في اختبارات الحياة بل هي سؤال إجباري من المحتم لصيانة الحاضر وصناعة المستقبل، الإجابة عليه. يقولون إن (الكذب مالوش رجلين) أي إنه عاجز عن المشي لمسافات طويلة، نعم، هذا صحيح غير أن له للأسف في العصر الحديث، كاميرات وميكروفونات وأقلاما وحروف طباعة وإنترنت وفيس بوك ويو تيوب، غير أنه سيظل عاجزا إلى الأبد عن التحول إلى حقائق مفيدة للبشر. من المشهور عندنا أن الإعلام ينقل الخبر ولا يصنعه، حتى هذه المقولة البسيطة الواضحة والتي تبدو صحيحة وصادقة، هي الأخرى في حاجة لإخضاعها لإعادة التفكير، هي صحيحة بالنسبة للغرب وهو المكان والحضارة التي يحاسب فيها الناس على الكذب، الكذب عندهم ليس نقيصة بشرية فقط مرة بل هو جريمة تعرض صاحبها للعقاب، لذلك هو ينقل الخبر للقارئ مفترضا أن الخبر صادق، الوضع عندنا مختلف تماما، ما يزيد العبء على العاملين في الصحافة والإعلام، الأكاذيب البيضاء عندنا ليست مجرّمة ولا عقاب عليها بل ربما يكافأ عليها صاحبها عندما يكون سياسيا أو حكوميا، باعتبار أنه يكذب ليسعد (الشعب) ويزيد من صموده وقوته في مواجهة الإمبريالية، فتكون النتيجة هي أن تكتسب كل الأكاذيب عندنا اللون الأبيض، هكذا يخطئ الإعلام العربي عندما يتصور أن وظيفته نقل الأخبار إلى القارئ، والصحيح هو أن يتأكد من صحة هذه الأخبار، وبذلك تكون مهمته هي نقل الحقيقة أو بلغة كتاب الدراما نقل (الفعل) وبذلك لا يكون مطالبا فقط بالتحقق من صحة الخبر، ولكن من صحة الفعل الذي تحول إلى خبر.

دعني أحدثك عن بعض الحكايات الأخرى عظيمة الطول شديدة العرض التي منها ما ينكشف بعد ساعات مثلما حدث في هزيمة 1967، في 5 يونيو استيقظت فزعا على صيحة فرح هائلة قادمة من الشارع، كنت أسكن في الدور الثاني، نظرت من النافذة فوجدت الناس تهنئ بعضها البعض في حماس وفرحة، سألت أهل بيتي عما حدث فأجابوني في سعادة: لقد قامت الحرب.. ومنذ ساعتين ونحن نسقط الطائرات الإسرائيلية.. لقد أسقطنا حتى الآن تسعين طائرة..

تسعون طائرة؟ يا إلهي.. كم كان إذن عدد الطائرات المهاجمة؟ ما أعرفه من قراءاتي في الحرب الثانية أن خسائر الطائرات في الهجوم تكون حوالي الــ 20%.. أي إن عدد الطائرات المهاجمة كان حوالي الخمسمائة، أسقطنا منها تسعين.. ترى ماذا فعلت بنا الطائرات الباقية.. تطلب الأمر مرور 24 ساعة فقط لأعرف الإجابة البائسة.

مشروع آخر يرتفع صوته بين الحين والآخر ثم يخفت، المشروع يتضمن زراعة الصحراء، لا جديد في ذلك ولا مبالغة، لا شيء طويل أو عريض، ولكن عندما تقرأ أننا تعاقدنا على حفار عملاق بمواصفات خاصة ليست متاحة في بقية الحفارات الموجودة في أسواق العالم، فعندها يبدأ (الفأر في اللعب في عبّك) ياله من مصطلح عبقري في العامية المصرية، الفأر هنا ليس في غرفتك يقرض شيئا في ركن من أركانها، هو في عبّك.. يتجول ويقرض شيئا في عقلك يمنعك من تصديق ما يراد لك أن تصدقه. الحياة أفعال، وكل الأفكار على وجه الأرض ليست إلا أفعالا تم التعبير عنها بالكلمات، ولذلك علينا دائما في كل ميادين الإعلام إخضاع أي فعل للعقل النقدي لمعرفة نصيبه من الصحة ومقدار الخطأ فيه. كما أنه لا توجد على الأرض أكاذيب مفيدة للبشر على المدى القصير والبعيد، كلها ضارة حتى لو كانت شاهقة البياض.