سياسات «الشرق الأوسط الجديد» وعواقبها

TT

على وقْع احتفاليات زيارة أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي للمنطقة الكردية بالعراق، نشرت وسائل الإعلام العالمية صُوَراً لمشروعٍ إيراني لضبط الحدود مع كردستان العراق، قوامُهُ إقامةُ سورٍ واقٍ لمنع العبور من إيران إلى المنطقة الكردية بالعراق، والعكس: أي منع العناصر الكردية من التسلُّل من كردستان العراق إلى إيران! وفي الوقتِ نفسِه كانت وسائلُ الإعلام إيّاها تضجُّ بالجدالات الإسرائيلية/ الفلسطينية على وقْع زيارة هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الأميركية لمنطقة الشرق الأَوسط، وتبنّيها العَلَني لوجهة نظر إسرائيل نتنياهو في مسألة الاستيطان!

وهكذا، فتحت نظر الولايات المتحدة الأميركية، وبرعايتها أو بدون رعايتها يظهر «شرقٌ أوسط جديد» تتنافسُ على اتخاذ مكانٍ أو موقعٍ ودورٍ فيه كُلٌّ من إيران وتركيا وإسرائيل. أمّا إسرائيل وإيران فتعمدان إلى فَرْض ذلك من طريق خَلْق مناطق نفوذ، وحصارات واحتلالات ورهائن وأسوار واقية، وأمّا تركيا فمن طريق مداخل جديدة للسياسة الخارجية، ولرؤية الإسلام، وللتنمية الاقتصادية والاعتماد المتبادَل، وفتح الحدود، وإزالة النزاعات التاريخية.

إنّ الطريف وذا الدلالة أنّ المشكلة الكردية ظلّت منذ الحرب العالمية الأولى العبءَ الأكبر على الدولة التركية، سواءٌ لجهة عدد الأكراد الكبير بداخل تركيا ومصيرهم بالتدريج للمطالبة بالحقوق الثقافية والسياسية، أو لجهة وجود الأكراد على الجهة الأُخرى من الحدود مع العراق، وإقبالهم على إزعاج الأمن التركي من هذه الناحية أيضاً. وأيام صدّام حسين، وبعد تزعزُع الأمن بالعراق في التسعينات من القرن الماضي؛ فإنّ الجيش التركي كان يُغير على الثوار الأكراد على الحدود بين البلدين، وهو ما يزال يفعلُ ذلك ضدَّ «جبل قنديل» بالمنطقة الكردية العراقية حتى اليوم. لكنّ هذا التاريخَ الطويلَ من العداء والإغارات، ما منع حزبَ العدالة والتنمية في العهد الجديد من انتهاج سياساتٍ جديدة تماماً في مقاربة الموضوع الكردي بداخل تركيا وعلى حدودها مع العراق. ففي الداخل التركي هناك حديثٌ علنيٌّ عن الحقوق الثقافية للأكراد، وعن التنمية في مناطقهم؛ وإنْ لم يصل الأمر إلى نقاشٍ لا مكان «إقامة حُكْم ذاتي» في المناطق ذات الأكثرية الكردية. وقد دفع ذلك عدداً من مُقاتلي حزب العمال الكردستاني لتسليم أنفُسِهِمْ للسُّلُطات وحصلوا على إطلاق سَراح. بيد أنّ اللافتَ أكثر كان زيارة وزير الخارجية التركي للإقليم الكردي بالعراق، وما أحاط بالزيارة من احتفالاتٍ ومظاهر فَرَحٍ وصداقةٍ وتعاوُن. وقد يتوسَّط الأتراك ـ ومنافذُهُم الحدودية هي صلةُ كردستان الأقرب بالعالَم الخارجي ـ في الانقسام حول كركوك بين العرب والتركمان من جهة، والأكراد من جهةٍ ثانية.

على أنّ سياسات تركيا الجديدة تُجاه الملفّ الكرديّ، ليست خاصةً بذلك الملفّ. فقد سلكت تركيا المسلَكَ نفسَه تُجاه المشكلة الأرمنية، وتُجاه المشكلات الحدودية والإثنية في آسيا الوسطى والقُوقاز، وتُجاه العلاقات التي كانت جامدةً مع سورية؛ وقد صارت الآن علاقاتٍ استراتيجية هائلة الانفتاح. وهناك ما يدلُّ على أنّ أردوغان في زيارته الأخيرة لطهران، حاول أيضاً التخفيفَ من الاتجاه الإيراني لمُصادمة سورية انطلاقاً من العراق ولبنان.

إنّ هذا الانفتاح التركيَّ على الساحة الشرق أَوسطية، ما كان معهوداً ولا منتظَراً في الماضي؛ وذلك لسببين: تعقُّد المشكلة الكردية والمشكلة الأرمنية، بحيث صارت الحدود مع سورية ومع العراق غير آمنة، واندفعت تركيا الأتاتوركية لعلاقاتٍ أوثَق مع إسرائيل ـ والسبب الثاني: توجُّه تركيا نحو أُوروبا، والاعتماد في ذلك على دعم الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الأَقرب(بريطانيا وألمانيا) في التحالف الأطلسي.

والواقع أنّ هذا الانفتاح التركيَّ، هو في الأصل رؤيةٌ إسرائيليةٌ وضعها شمعون بيريز عام 1988/1989 في كتابه: «الشرق الأوسط الجديد». وتقوم تلك الرؤية على اندفاع إسرائيل في سياسات سلمية أولويتُها التنمية الاقتصادية؛ بحيث يتوارى بالتدريج إحساسُ الفلسطينيين والعرب الآخرين بالظُلم والغَضَب. وقد أكمل إسحاق رابين تلك الرؤية باقتراح حلّ للمشكلة الفلسطينية أدّى إلى اتفاقية أوسلو عام 1993. ثم حالت دون ذلك حوائل من الجانبين: الإسرائيلي، والفلسطيني/ العربي. فمن الجانب الإسرائيلي ما كان اليمين والمستوطنون يقبلون العودة إلى حدود العام 1967. ولذلك فقد قام أحدهم باغتيال إسحاق رابين. وفي انتخابات العام 1996 بإسرائيل صار نتنياهو رئيساً للوزراء بإسرائيل، وهو صاحبُ رؤيةٍ مُناقضةٍ لرؤية بيريز شرحها في كتابه: «أمةٌ تحت الشمس» تقوم على القوة والعصا الغليظة، وتستندُ في شعبيتها إلى اليمين الديني والمستوطنين. وفي تلك الفترة بالذات (1994 ـ 1997) صعد نجمُ حماس من خلال هجماتها الانتحارية التي قتلت عشرات من المدنيين الإسرائيليين فتغير مزاج الجمهور الإسرائيلي. ثم إنّ الرئيس حافظ الأسد، الذي كان ضد أوسلو، وبعد انسداد مفاوضات مدريد؛ شدَّد الضغوط على إسرائيل (وياسر عرفات) من خلال حزب الله وهجماته، وحماس وانتحارياتها. ونتنياهو هو رئيس الوزراء بإسرائيل منذ مطلع هذا العام ورؤيته هي رؤيتُه، والمزاجُ الشعبيُّ أقربُ إليه، وقد أضعف الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني الثقة والصدقية بالفلسطينيين عموماً ولدى العرب والدوليين. وها نحن نرى نتائج جهود الإدارة الأميركية خلال عشرة أشهر؛ إذ انتهت إلى دعم وجهة نظر نتنياهو في الإقبال على «المفاوضات بدون شروط». بينما تشترط السلطة الفلسطينية أمرين: وقْف الاستيطان، والموافقة على أن «مرجعية المفاوضات» هي قرارات الأُمم المتحدة في العودة إلى حدود العام 1967.

إنّ لسياسات القوة الإسرائيلية نتائج بالطبع. لكنها لا تُقارَنُ بالنتائج الواعدة للسياسات التركية. وفي ما عدا ما يقال من أنَّ لإسرائيل وجوداً في منطقة الحكم الذاتي الكردية؛ فإنّ إجراءات إسرائيل الأُخرى هي أقربُ للانكماش والدفاع، وليس التوسُّع والانفتاح. ومن ذلك «السُور الواقي» الممتدّ على مسافة ألف كيلو متر مع الضفة الغربية، والفِرَق العسكرية ووسائل الحرب الإلكترونية المنتشرة على سائر حدودها حتّى لناحية الأردن. وقد كانت بعضُ الدول العربية والإفريقية تقيم علاقاتٍ سرية أو علنية مع إسرائيل أيام الرئيس بوش مُراعاةً للولايات المتحدة، ولاعتقاد المُجاملين لإسرائيل أنها تستطيع التوسط لهم مع أميركا. أمّا اليوم فإنّ إسرائيل والعلاقة بها عبءٌ وليس ميزة. ولذا فالذي أُقدِّرُهُ أنَّ إسرائيل ستظلُّ في السنوات المقبلة في حركةٍ دائبةٍ إنما وهي تحملُ العصا الغليظةَ ذاتَها وإن استخدمتْها بأشكالٍ مختلفة بحسب الطرف المُخاصم لها أو مَنْ تعتقدُهُ كذلك.

والواقع أنّ اعتبار القوة وسياساتها مدخلاً لدورٍ وشراكةٍ في «الشرق الأوسط الجديد» هو صنيعُ إيران أيضاً. والطريف أنّ الملفَّ الكرديَّ بالذات كان ميزةً لإيران أيام الشاه، لكنه صار منذ قيام الثورة الإسلامية عبئاً عليها. فقد استخدم الشاهُ الأكراد ضد العراق، ثم استخدم التخلّي عنهم لمُسالمة العراق. وما كانت مخابراتُهُ بعيدةً عن نشاطات الأكراد في تركيا. وما فعل الثوريون الإيرانيون شيئاً من ذلك. فقد اصطدموا أواسطَ الثمانينات بالأقلية الكردية الإيرانية، وعمدت مخابراتهم لاغتيال زعمائها بفيينا. وظلُّوا يتبادلون القصف المدفعيَّ مع الأكراد الإيرانيين اللائذين بكردستان العراق، إلى أن قرروا قبل عامٍ في ما يبدو أن يبنوا سُوراً أو حواجز بينهم وبين تلك المنطقة الحدودية في الجهات التي لا تسهُلُ حراستُها أو مراقبتُها.

بيد أنّ هذا الإجراء «الدفاعيَّ» لا يُشابُه تصرفاتهم الأُخرى. إذ تمدَّدوا بالأمن وبالسلاح وبالأُطروحات السياسية الهجومية في عدة بلدانٍ عربيةٍ، وفي آسيا الوسطى والقوقاز، وفي أفغانستان. وقد اعتمدوا في تمدُّدهم في عدة نواحٍ على الأقليات الشيعية، وفي نواحٍ أُخرى على تيارات الإسلام السياسي، أو مُعارضي أنظمة الحكم؛ فضلاً عن تحالُفهم مع النظام السوري. وقد كانت لتلك الامتدادات ميزاتُها وعواقبُها أو عقابيلُها. فبالنسبة للملفّ الكردي ما يزال الأمر مشكلةً لإيران رغم استخدام القوة على الدوام في الداخل وعلى الحدود. أمّا في العراق وسورية ولبنان وبعض دول الخليج؛ فقد ظهرت «مناطق نفوذ» إيرانية، يوشكُ بعضُها أن يكونَ دائماً؛ لكنه يعتمد على القوة والتهديد والانقسامات الداخلية، ولا يُشابهُ ولو من بعيد السياسات التركية الجديدة.

هناك إذن «شرقٌ أوسط جديد» في طريقه للتكوُّن. والأكثر حركةً فيه هم الأتراك والإيرانيون والإسرائيليون. وقد تضاءلت آمالُ الإسرائيليين في الامتداد لكنهم ما يزالون يعتمدون على القوة في تثبيت سيطرتهم بل واحتلالهم. والإيرانيون والأتراك موجودون بقوةٍ في المنطقة العربية وفي آسيا الوسطى والقوقاز وأفغانستان وباكستان. لكنّ الإيرانيين يريدون تجذير وجودهم بالقوة؛ بينما يريد الأتراك ـ بعكس الصورة التاريخية عنهم ـ إثبات أنهم ضرورةٌ للأمن والاستقرار والنموّ في سائر مناطق حركتهم وفعاليتهم.

ما عادت إسرائيل نموذجاً لأيّ شيء. ولذلك تعتمد في بقائها على تحولها إلى قلعة مسلَّحة قابعة «وراء جُدُر» أمّا النموذجان للشرق أوسطية الجديدة فهما إيران وتركيا. وتركيا ونموذجها أحدث وأكثر إغراءً للنُّخَب والسلطات والطبقات المتوسطة. أما إيران فنموذجُها أكثر إغراءً للعامّة الملدوغة من إسرائيل ومن أميركا ومن وجوه الإذلال اليومية. ونجاحُ أيٍّ من النموذجين في المدى القريب يعتمد على أمرين: علائق النظامين بالعالَم الغربي وبخاصةٍ الولايات المتحدة وكيف تتطور، وعلائق النظامين بدُوَل المشرق العربي التي يجري التنافُس والتنازُعُ على أرضها وثرواتها ومَدَياتها الاستراتيجية.