مدن تنتقم

TT

يحدثني العائدون من برلين عن عاصمة هادئة تستعيد رونقها ومكانتها على الطريقة الألمانية. وكل عام أقول في نفسي لا بد أن أذهب هذا العام، فتكثر المشاغل وتؤجل الرغبات. وأنا أتطلع إلى أن أقارن بين برلين القاسية الخائفة التي عرفتها، وبين برلين التي تعيش بلا جدار منذ عشرين عاما على وجه الضبط. وكل قراءتي عن برلين، إما حزينة أو ناقمة. لقد اعتدت برلين الهتلرية على كل من طالت يدها، لكن الانتقام منها كان أشد فظاعة بكثير. ذهب هتلر إلى روسيا السوفياتية يدمر ستالينغراد ويجوعها ويرمدها ويحاصرها ويقتلها بردا وجليدا. ولما جاء ستالين لينتقم من عدوه المهزوم، أرسل على رأس الجيش الزاحف، الجنرال تشويكوف، الرجل الذي قاد حامية ستالينغراد. عندما هزم الألمان في ستالينغراد أدرك الجميع أن نهاية برلين أصبحت وشيكة. وراحوا يتخيلون أي نهاية سوف تكون. لكن لم تستطع أي مخيلة أن تتوقع ما حصل. فعندما وصل الجنود السوفيات كانوا معبَئين بكل قطرة حقد. وبرلين التي أرادها هتلر رمز الانتصار ها هي تصير رمز الهزيمة والسقوط.

وحاول الألمان، أطفالا وعجزة، أن يردوا بشاعة الانتقام، لكن قواتهم تضعضعت. وخضع جنرالاتهم الماهرون لغباء الجنرال هملر، رفيق هتلر. وفقد هتلر جأشه عندما أدرك مدى هول الهزيمة فقال: «لقد أثبتت الأمة أنها ضعيفة، وها هو المستقبل برمته يصبح في أيدي شعوب الشرق الشجاعة».

جرت معركة برلين في كل شارع وزقاق وقبو. وكان القصف الأميركي والبريطاني قد حوَّلها أصلا إلى رماد وركام. وكان السوفيات قد عاهدوا أنفسهم على أن تبدو برلين ساعة استسلامها كما بدت ستالينغراد ساعة انتصارها.

أما ستالين نفسه فكان يفكر في أمر أكثر أهمية من سقوط المدينة. لقد أراد برلين بسبب مركز الأبحاث الذرية القائم في ضاحية دالم. فقد كان علماؤه يقتربون من صنع القنبلة، لكنهم كانوا في حاجة إلى اليورانيوم. ونقل الألمان معظم كميات الأورانيوم إلى منطقة «الغابة السوداء»، لكن بقي في برلين ما يبرر الاستيلاء عليها. يبدو كل شيء الآن مثل كوابيس لا نهاية لها. وبرلين تمضي الوقت في البناء والمعارض والمسارح. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي كان أكبر المساهمين في دعم روسيا المستشار هلموت كول. متاحف هذا العالم متاحف. ونصب لا معنى لها لرجال قتلوا وقتلوا من أجل لا شيء أو لا أحد. ما فعله ستالين بالألمان لا يقارن بما فعله هتلر. وهم شعب يدمر بلا حساب ويعيد البناء بلا مثيل. لقد أعادوا بناء بلدهم حصاة حصاة. لكن ثمة ما يستحيل بناؤه: النفس الألمانية، بسبب ما فعلت وبسبب ما تعرضت.