مفكرة الطريق بين منزلين

TT

كلما نزلت من القرية إلى بيروت يلفتني ما يعرضه الباعة على طول الطريق: خضار، فاكهة، زيت، زيتون، عسل، بيض، ألبان، إلخ. ولم أنتبه، برغم طول السنين، إلى أن المدينة الصاخبة تستهلك كل شيء ولا تزرع أو تربي شيئا. كل ما تأكله المدن الكبرى يأتي من القرى الصغيرة. كل ما يشتريه الأغنياء يزرعه الفقراء. كل هذه المدن الوسيعة المليئة بالناس والمستعجلين والراكضين والغاضبين، تعيش، عمليا، من هدوء القرى وروعة السهول وغنى الأشجار وتعب المتعبين. يتكرر المشهد أمامي منذ سنوات طويلة: مزارع يبيع على جانب الطريق ما يزرع في المواسم. كلما هبطت مسافة قليلة تغير نوع المعروض. بندورة وعنب وتفاح وإجاص (كمثرى) على ارتفاع 800 متر، وكيوي وقشطة وأفوكادو على ارتفاع 500 متر. وعندما تصل إلى الساحل ومستوى البحر يتغير كل شيء وتتسع بساتين البرتقال والليمون والموز.

لا علاقة للمدينة بشيء. إنها السوق الذي تباع فيه الأشياء. ألم تنشأ المدن هكذا في الأساس؟ مكان لبيع المنتجات وعقد الصفقات وتصريف المواسم؟

إيقاعان متعاكسان. المدن تسير بسرعة والريف ينام باكرا ويغدو باكرا. المدينة تندفع بجنون نحو المستقبل، تستطلعه، تعد له، تحاول استقراء طياته، والقرى تدندن الميجانا والعتابا وتستعيد حول المواقد ذكريات الماضي. وكلما تعب ابن المدينة من الهرولة خلف المستقبل، عاد إلى القرية بحثا عن هدوء الماضي وسكينته. لم يتغير الكثير من هذه الفوارق في السنوات الخمس الماضية. حكم على المديني أن يرضي ـ أو يسترضي ـ نفسه بحديقة من هنا وحديقة من هناك. لكثرة ما ملأ ضباب المصانع لندن، ولكثرة ما كتبت ديكنز وهنري جيمس عن تلوثها البيئي والحياتي، حاولت أن توسع حدائقها وتزرع فيها الشجر والبحيرات. ويشتري الإنكليز منذ عقود مجلة «الريف» لا من أجل شراء المنازل، بل من أجل التفرج على صورها. فهم يعرفون أن عاصمتهم هي عاصمة الحركة الجوية في العالم. وحركة مطار هيثرو هي ضعف الحركة في مطاري باريس وفرانكفورت معا. لذلك تقدم لندن للعالم البورصة والمتاحف والمسارح وتأكل العنب من التشيلي والكرز من جنوب أفريقيا والبقدونس من جنوب فرنسا. عالمان، واحد من حديد وفولاذ وزجاج وأسمنت وأجر، وواحد من شجر ومياه ومراع. عبقريتان متكاملتان. نصف مرهق ونصف مريح. من أجل أن أصل إلى أي موعد في قريتي يجب أن أحسب 5 دقائق. أو أقل. من أجل أي موعد في بيروت، يجب أن أرضى بساعة ذهابا. وأكثر منها في العودة.