أوباما: أردناك (وطنيا أمريكيا).. لا عربيا ولا إسرائيليا

TT

((إن العرب واليهود مثل اثنتين من الماعز التقتا على جسر ضيق لا يسعهما معا، ومن ثم فعلى واحدة منهما أن تقفز إلى البحر لتفسح الطريق إلى الأخرى. والقفز من جانب اليهود يعني الفناء. أما قفز العرب فيؤدي إلى فناء جزء صغير منهم، حيث إن العرب عددهم ضخم ينتشرون على مساحة كبيرة من الأرض)).. بن تسيون نتنياهو (والد بنيامين نتنياهو): رئيس وزراء العدو الصهيوني.

يظهر أن نتنياهو الابن المؤمن ـ إلى درجة اليقين ـ بنظرية والده هذه، بدليل إصراره على (الاستيطان) وتهويد القدس، وعلى كل ما (يفني) الشعب الفلسطيني، أو يهلك (المعزة العربية) في سبيل بقاء (المعزة اليهودية)!!

والسؤال هو: هل تبنى باراك أوباما نظرية آل نتنياهو؟!!

وإلا كيف يمكن تفسير (الانقلاب) المفاجئ والسريع في موقف إدارته من الاستيطان الصهيوني؟، أي الموقف الذي وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بأنه (غير مسبوق)، وهو تعبير يستعمل ـ عادة ـ في وصف: المبادأة العظيمة، والابتكار الرائع، والتنازل الكريم السمح، وهذا هو التفسير الوحيد أو الراجح لكلامها ـ بالضرورة ـ لماذا؟. لأن هيلاري كلينتون لا تقصد ما يضاد هذا التوصيف الرائع: لا تقصد ـ قط ـ أن الموقف الإسرائيلي غير مسبوق في ظلمه وعدوانيته ورفضه للسلام، وإلا لَمَادَت الأرض من تحت أقدامها، وأقدام جمهوريتها. والدليل على أنها أرادت (تمجيد) الموقف الإسرائيلي: أن (إيباك) ـ أبرز لوبي صهيوني في أمريكا ـ أصدرت بيانا (زغردت) فيه لتصريحات هيلاري وقالت: ((إن استخدامها عبارة (غير مسبوق) في وصف الموقف الإسرائيلي يُعد اعترافا أمريكيا رسميا بتعاون إسرائيل مع الجهود الأمريكية لإحلال السلام، كما أنه تصريح ولّد فكرة قوية بأن الفلسطينيين هم المسؤولون عن الجمود في عملية السلام)).. والدليل الآخر: أن وسائل الإعلام الأمريكية (المتصهينة) قد طارت بالتصريح كل مطار وأثنت عليه أيما ثناء.

ونقول انقلاب مفاجئ وصاعق على موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما، لأنه في خطابه الشهير في القاهرة قال: ((إن الاستيطان يجب أن يتوقف بصورة كاملة لأنه يتناقض مع كل الاتفاقات السابقة، ومع عملية السلام، ومع فرص الثقة، ومع حقوق الشعب الفلسطيني)).

ما هذا (السقوط) السريع جدا؟!

بَديه: أننا لا نريد أوباما أن يكون (عربيا) أكثر من العرب، ولكنا لا نقبل أن يكون (إسرائيليا) أكثر من الإسرائيليين. وإنما المراد ـ بعقلانية وتواضع ـ أن يكون (وطنيا أمريكيا) فحسب، بمعنى: أن تتقدم حسابات الأمن القومي والمصلحة الأمريكية على حسابات الحركة الصهيونية ـ بشقيها: الأمريكي والإسرائيلي ـ، وهي حسابات أمريكية لم نرها، ولم نلمسها، ولم نشمها في هذا التبدل الغريب المريب في موقف الإدارة الأمريكية: (رفض) واضح لمظالم الاستيطان الصهيوني.. ثم (قبول) بهذا الاستيطان، بل وصف سلوك المعتدين الذين يمارسونه بأنه (سلوك غير مسبوق).. ألا يعلم الرئيس أوباما أن هذا الموقف قد لطخ ـ بسوء السمعة ـ صورة الولايات المتحدة من جديد، هذه الصورة التي كادت تصريحات أوباما ورحلاته ـ وأخلاقه الشخصية ـ أن تحسنها وتجملها؟

لمصلحة من يضحي الرئيس الأمريكي بسمعة بلاده لدى الرأي العام العربي والإسلامي؟.. أمن أجل الحركة الصهيونية وإسرائيل.. إن هذه التضحية مضادة وناقضة لقسم الدستور والولاء الذي أداه بمناسبة تتويجه رئيسا للولايات المتحدة.. ثم هي تضحية ضارة باليهود ـ على المدى الطويل ـ.. فمن المرجح أن سياسات اليمين الإسرائيلي المشبع بالتعصب الديني والعرقي ستزيد الصراعات تفجرا في المنطقة، وستزيد أعداء الكارهين لهذا الكيان الصهيوني، وأعداد المقاومين له، وستقبح صورة اليهود كلهم في العالم، وهو مصير يتوقعه عقلاء اليهود في العالم توقعا دفعهم إلى توجيه نقد مرير إلى غلاة الصهيونية في إسرائيل.. على سبيل المثال يقول النائب اليهودي في مجلس العموم البريطاني جيرالد كوفمان: ((كانت جدتي راقدة في الفراش بسبب المرض عندما دخل النازيون بيتها وأقدم جندي نازي على قتلها في سريرها. ولم تمت جدتي كي تكون مبررا للجنود الإسرائيليين الذين قتلوا الجدات الفلسطينيات في غزة. إن إسرائيل كالنازيين تماما)).. ويقول البروفسور الجامعي اليهودي أندريه نوشي: ((إنكم يا قادة إسرائيل تضربون بعرض الحائط تعاليم الأخلاق اليهودية، فالخزي لكم ولدولتكم إسرائيل.. أنتم لا تعون أنكم تحفرون قبوركم بأيديكم لأنكم لم تدركوا أنه محكوم عليكم بالعيش مع الفلسطينيين والدول العربية، فإن فقدتم هذا الذكاء السياسي فلستم بأهل حكمة وتدبير وعليكم أن تستقيلوا حفاظا على مستقبل اليهود)).

فلماذا يُدفع أوباما لأن يكون إسرائيليا أكثر من هؤلاء اليهود؟!.. ولماذا التضحية البائسة بسمعة دولة عظمى؟.. أمن أجل غلاة صهاينة دانهم قومهم واتهموهم بالإجرام والتسبب في تعاسة مستقبل اليهود؟

وأغرب من الغريب: محاولة الوزيرة الأمريكية تسويق موقفها للدبلوماسيين العرب في المغرب وغيره، بيد أنه مما يسر أن الموقف العربي العام كان متمسكا أو متحدا ضد التطبيع والاستيطان وتهويد القدس، وهو موقف أنقذ (الدبلوماسية العربية) من الهوان العام الذي أهاله عليها الإسرائيليون والأمريكان، ونأمل أن يثبت ويتطور هذا الموقف حتى يصبح سياسة واضحة وصلبة تنقذ العرب من الخزي السياسي والتاريخي.

ومن الواضح أن هذا الموقف العربي قد اتكأ على موقف السلطة الفلسطينية التي رفضت ـ بحسم ـ الموقف الأمريكي المتخاذل، ورفضت (الإخراج) الملتوي الذي أخرجت فيه هيلاري كلينتون كلامها مرة أخرى كمحاولة لاحتواء رد الفعل العاصف.

ولئن كان هذا ليس وقت توجيه الملام إلى المسارات التي أدت إلى ذلك كله، فإن تجاوز الملام ينبغي أن يتمثل في خطوات إيجابية واضحة وصادقة وصلبة وهي:

1ـ ثبات الموقف الفلسطيني ثباتا لا يعرف اللين ولا التميع، ثباتا يُبنى عليه ما بعده من رؤى وسياسات جديدة تستفيد ـ بطموح ـ من التجربة الماضية ـ.. ومما يوجبه هذا الثبات: المسارعة إلى مصالحة وطنية فلسطينية شاملة ودائمة. فالحق أن الشقاق الفلسطيني تسبب في الموقف الإسرائيلي الأعمى، وفي الموقف الأمريكي الغريب المريب , وقد تهيأ المناخ.. بالاضطرار لإنهاء هذا الشقاق .. ورب ضارة نافعة.

2ـ أن يبدل العرب سياساتهم الغامضة والعائمة تبديلا يمكنهم من دعم الموقف الفلسطيني الثابت.. هذا.. أو البلاء المبين الذي لن يستثني أحدا.