عندما تناقض الديموقراطية نفسها

TT

إزالة آخر العقبات أمام طريق ميلاد الولايات المتحدة الأوروبية في شكل عملاق اقتصادي سياسي اسمه الاتحاد الأوروبي كان في محكمة تشيكية قدمت للتاريخ تناقضات غريبة للديموقراطية.

بعض العرب، من ثمار شجرة الوحدوية الأحمدسعيدية يتطلعون إلى التجربة بإعجاب قائلين «عقبال توحد العرب».

في مقابلتي مع تلفزيون «بي بي سي» العربي تعجب المذيع من هجومي الشديد على «الولايات المتحدة الأوروبية» ككيان غير ديموقراطي.

لم أكن أعبر عن رأي شخصي وإنما، كمحامي الشيطان، عبرت عن رأي الطرف الغائب أي الشعب البريطاني (من أربع قوميات وبعض العوائل depedencies فالاسم القديم colonies مستعمرات شطب من القاموسين الرسمي والصحفي).

أغلبية البريطانيين يرفضون معاهدة لشبونة، والتي كان اسمها «الدستور الأوروبي الموحد»، لكن المفوضية الأوروبية (غير المنتخبة) غيرت الاسم لتضحك على الشعوب.

فمعاهدة الاتحاد الأوروبي المعدلة في ماستريخت اشترطت موافقة جميع الدول الأعضاء، مع التشديد على كلمة «جميع» على الدستور ليدخل حيز التنفيذ. ومع رفض الهولنديين، كأول شعب للمعاهدة في الاستفتاء، تغير الاسم من «الدستور الموحد» إلى «معاهدة لشبونة»، كمخرج للحكومات من وعودها الانتخابية بإجراء استفتاء على الدستور الموحد.

وكان هذا موضع سؤالي بسخرية خبيثة لمسؤول كبير في داوننغ ستريت، عما إذا كان تغيير رجل ارتكب جريمة لاسمه بينما صدر أمر القبض عليه باسمه القديم يعني إفلاته من العقاب؟

فهم المسؤول الكبير قصدي وأجاب ضاحكا بأنه غير متخصص في القانون الجنائي، لأن سؤالي كان ترجمة لمفهوم القول المصري الشهير «إن أحمد هو الحاج أحمد» أي أن اكتساب الرجل لقب حاج لا يعني أنه شخص آخر.

وما يثير حنق البريطانيين هو فقدانهم حق الاستفتاء على المعاهدة مثلما وعدت الحكومة العمالية قبل إعادة انتخابها عام 2005.

وكان الأيرلنديون رفضوا المعاهدة في استفتاء العام الماضي، لكن المفوضية الأوروبية أصرت على إعادة الاستفتاء هذا الصيف. وأنفقت المفوضية أكثر من عشرين مليون يورو على حملة دعائية لابتزاز الناخب الأيرلندي في نقطة ضعفه المالية وسط أكبر أزمة اقتصادية تمر به في العصر الحديث بأن الاندماج في الوحدة الأوروبية هو سفينة النجاة من الغرق في عاصفة البطالة.

تناقضات الديموقراطية أن حكومات منتخبة ديموقراطيا، «تآمرت» وراء أبواب مغلقة مع مفوضية غير منتخبة لتحقيق وحدة فيدرالية لها حكومة غير منتخبة، أي لا يحاسبها أحد.

المفارقة الأخرى أن العقبة الأخيرة التي وقفت شهرين حائلا أمام وضع معاهدة لشبونة موضع التطبيق، كانت قانونية ديموقراطية. فالرئيس التشيكي كان ينتظر حكم محكمة دستورية في بلاده لجأ إليها 17 من نواب البرلمان التشيكي الذي وافق أعضاؤه على المعاهدة. الأعضاء المعترضون أشاروا لتناقض بنود في المعاهدة للدستور التشيكي بإنقاصها من استقلال البلاد وسيادتها الوطنية بتوقيع اتفاقيات ومعاهدات دولية ملزمة لجميع الدول الأعضاء، قد تتناقض والمصلحة القومية للتشيك أنفسهم.

المفارقة الأغرب، أنه بعد دخول المعاهدة حيز التطبيق، تفقد هذه المحكمة الدستورية التي مهدت الطريق لتطبيقها صلاحيات نظر مثل هذه القضية في المستقبل حسب المعاهدة، أي مثل خراف تختار عيد الأضحى كأفضل أيام العام.

إنقاص السيادة الوطنية يثير حنق أغلبية الشعب البريطاني، بدليل رفض رئيس الوزراء غوردون براون إجراء استفتاء، لأن استطلاعات الرأي تؤكد رفض الشعب معاهدة لشبونة؛ ولو كان متأكدا من قبول الشعب لها، لأجرى الاستفتاء (مثلما فعل سابقه، رئيس الوزراء العمالي الراحل جيمس كالاهان قبل أكثر من ثلاثة عقود على الخروج من السوق الأوروبية المشتركة).

وتصرف رئيس الوزراء براون، غير الديموقراطي (نكث الوعد الانتخابي بالاستفتاء على الوحدة الأوروبية)، هو نتيجة لحرية وديموقراطية لا مثيل لها.

فاستطلاعات الرأي أحد أهم المؤسسات (وأقصد institution وليس مؤسسة تجارية بمعنى شركة) الليبرالية الديموقراطية في ركائز المجتمع الحر، وقد تجريها شركات تجارية أو معاهد أكاديمية أو الصحف (أسبوعيا لضبط أسلوبها التحريري بهدوء ودقة غير ملاحظة لجذب المزيد من القراء) أو الأحزاب السياسية. ولا يمر يوم إلا وتنشر الصحافة الحرة كمؤسسة أساسية في المجتمع نتائج استطلاعات الرأي.

ونتائج الاستطلاعات بشأن الوحدة الأوروبية لم تتغير منذ سبع سنوات، وهي رفض فكرة الوحدة الأوروبية. على أكتاف هذا الرفض نشأ حزب استقلال المملكة المتحدة UKIP قبل أربع سنوات، والمفارقة الأخرى أن نوابه انتخبوا للبرلمان الأوروبي بينما لم ينجح منهم أحد في انتخابات مجلس العموم البريطاني. وطبعا يعلم رئيس الوزراء براون وحكومته، عبر طريقة ديموقراطية (استطلاعات الرأي)، برفض الشعب للمعاهدة، فيستغلون الديموقراطية هنا، لجر البلاد إلى كيان عملاق يناقض وجوده فكرة الديموقراطية نفسها.

ويمكن إذن تحليل تطور ظاهرة استغلال أدوات الديموقراطية كاستطلاعات الرأي إلى نهايتها المنطقية وهي أن نجاح الديموقراطية سيصل بها في مرحلة الشيخوخة إلى الديكتاتورية الشمولية.

مثل تحليلات الماركسيين بأن نجاح الرأسمالية سيؤدي في النهاية إلى انهيارها كنموذج اقتصادي (وكاد يحدث بأزمة انهيار البنوك لولا تدخل الحكومات لإنقاذها بأسلوب مناقض لأساسيات حرية السوق أصلا).

أما رئيس الوزراء القادم، زعيم المحافظين دافيد كاميرون (إذا صدقت استطلاعات الرأي) فوضعه حكم المحكمة التشيكية في مأزق، فقد وعد بأن يجري استفتاء على معاهدة لشبونة إذا نجح حزبه في انتخابات مايو القادم. لكنه يرى الآن أن الاستفتاء لا معنى عمليا له بعد «وقوع الفاس في الراس»، حسب القول المصري ودخلت المعاهدة حيز التطبيق. لكنه وعد يوم الأربعاء «برفض ما يناقض مصالح بريطانيا»،

فمن سلبيات المعاهدة مثلا مرور المهاجرين الشرعيين عبر جميع حدود أوروبا دون أن يعترضهم أحد حتى يصلون بريطانيا ويطلبون حق اللجوء السياسي بسبب أو بلا سبب، وحوادث الإرهاب في السنوات الأخيرة ارتكبها مهاجرون، وهم يعملون بأجور منخفضة وكثيرهم لا يدفع ضرائب مما يرفع من شعبية أحزاب اليمين الفاشية المعارضة للهجرة التي تسهلها معاهدة لشبونة. وزير الخارجية الفرنسي انتقد كاميرون قائلا إن المعاهدة «شراء بالجملة» أي يقبل كل القرارات بلا حق الانتقاء.

وبفرض أن المتوجهين لصناديق الاقتراع في بريطانيا هم 62%، وإذا انتخب أكثر من 45% منهم المحافظين يصبح كاميرون رئيس الوزراء. لكن النسبة الحقيقية إذن ستكون 30% فقط من الناخبين، وهنا تقول له مفوضية بروكسيل «أنت لا تمثل الأغلبية البريطانية».

نصيحتي المتواضعة لكاميرون أن يجرب لعبة براون بالمعكوس، أي يجري الاستفتاء في أي حال، وهذا سيجعله في موقف أقوى أمام جدل المفوضية الأوروبية عن شرعية تمثيل الشعب، خاصة وأنها غير منتخبة.