بين الخنازير والفتنة

TT

موسم الحج بمكة المكرمة مناسبة للمساواة والتحاب والتآخي والسلم والعبادة. وفي السنوات الأخيرة أصبح تنظيمه وخلوه من الحوادث مفخرة لكل مسلم، وبذلت المملكة العربية السعودية جهودا جبارة لتنظيم الحج بشكل حضاري يندر إنجازه، فملايين من البشر يحتشدون كل عام في بقعة صغيرة من الأرض ليمارسوا شعائرهم، وهم من مختلف الأطياف والقوميات واللغات والعادات، وغالبيتهم أتوا من دول تكثر فيها الأمية ويندر التعليم، ومع هذا خلت مواسم الحج من الحوادث الكبرى، وتلاشى الموت الجماعي الذي غالبا ما يصاحب التجمعات البشرية الهائلة.

موسم الحج هذا العام يصاحبه وباء إنفلونزا الخنازير (H1N1) والذي ينتقل في التجمعات الكبيرة، وقد طلبت دول كثيرة من رعاياها التفكير في تأجيل الحج هذا العام وبالذات للمسنين والذين يعانون مشاكل صحية في التنفس.

إنفلونزا الخنازير ستضاعف مهمة السلطات السعودية للعناية بالحجاج، وستتكثف الجهود لمراقبة هذا الوباء منعا لانتشاره بين زوار بيت الله، ولكن الأخطر على سلامة الحجاج قد لا يكون الوباء البدني، ولكنه وباء العقول التي تبيّت الفوضى وإحداث القلاقل في موسم الحج، وقد خرجت أصوات مثل هذه العقول من طهران قبل أيام.

لإيران في قلوبنا مكانة من الاحترام والمحبة، وعرفان للدور الكبير في منجزات الحضارة العربية ـ الإسلامية، وهي دولة مهمة وجارة لا يمكن الاستغناء عن التعاون والتعايش معها. لكن المشكلة مع السياسة في طهران ذات الصوتين: صوت عاقل ورزين وصوت متوتر وموتور. والمؤسف أن صوت التوتر والموتورين هو الأعلى في طهران هذه الأيام، وهو صوت يحاول إسكات أصوات العقل في إيران بتشتيت الانتباه إلى الخارج. إيران تعيش أزمة، بل أزمات، فمن أزمة انتخابات ـ فرضت نجاد رئيسا ـ لا تزال نتائجها تخيم على الشارع الإيراني آخذة أشكالا من القتل والسجن لمن يعارض نتائج الانتخابات، إلى أزمة تفجيرات إرهابية وحركات انفصالية لعل أسخنها هذه الأيام في بلوشستان التي قادت أحداثها إلى توتر مع جارتها باكستان، ثم اختراقات للحدود بينهما ما زالت آثارها مخيمة على العلاقات بين البلدين. وتعيش إيران أزمة مع المجتمع الدولي بسبب برنامجها النووي واحتمالات تشديد عزلتها وحصارها.

وهناك أزمة إيرانية تتمثل في «التمدّد» الإيراني الطموح في المنطقة العربية باسم تصدير الثورة، لكن في واقع الأمر هو تصدير للأزمات الإيرانية الداخلية، فمن تدخل واضح في الشؤون العراقية، إلى ذراع أوضح في لبنان ممثلا بحزب الله، إلى انحياز سافر مع حماس ضد فتح، ومساندة الحوثيين المعلنة في اليمن، إلى التدخل في الشؤون المصرية، وبلغ التوتير مع جيرانها العرب قطع المغرب لعلاقاتها معها، ورشق تصريحات غير مسؤولة كل آونة وأخرى ضد جيرانها الخليجيين العرب مع استمرار الرفض بحل مشكلة الجزر الإماراتية بالطرق السلمية، ثم جاءت بثالثة الأثافي بتصريحات موتورة عن نية المملكة العربية السعودية تطبيق إجراءات مشدّدة ضد الحجاج الإيرانيين، وهذه مسألة لا يقبلها عقل، ولا يصدقها عاقل، فمتى كانت السعودية تتشدد على حجاج إيران أو غيرها من الدول؟

إن واحدا من أهم أسباب نجاح إدارة شعائر الحج من قبل المملكة العربية السعودية طوال هذه السنوات، هو أنها أبعدت فريضة الحج عن السياسة، ونأت بها عن تقلباتها، فالسياسة متغيرة، والحج فريضة ثابتة، وفرض أجندات سياسية بموسم الحج هو دعوة للفوضى في موسم حاشد ولا يقبل الفوضى، وعليه فإن أية دعوات للفوضى ستتطلب إجراءات سعودية حاسمة متوقعة ومشروعة، وبالتالي فقد يحدث ما لا يحمد عقباه، وتتحمل نتائجه طهران الموتورة. والأمل بتغليب صوت طهران العاقلة قبل فوات الأوان.