المزيد من الحاجة إلى التفكير خارج الصندوق

TT

العديد من الفلاسفة منهجوا مفهوم القطيعة المعرفية وبلوروه في صورته الحالية، ولعل من أبرزهم الفرنسيون غاستون باشلار وميشال فوكو ولويس ألتوسير، والأميركي توماس كوهن، الذين، وإن اختلفت اهتماماتهم وتركيزهم ما بين الثقافي والعلمي والاجتماعي، إلا أن مفهوم القطيعة هو الذي يجمعهم، سواء كان الحديث في تاريخ العلم والتراكم العلمي، أو في تطور الفكر والمجتمعات والثقافات. فباشلار وكوهن مثلا حاولا أن يبينا أن التطور في مجال العلم ليس قاصرا على التراكم بقدر ما هو قائم على تغيير الزاوية التي يُنظر بها إلى الأشياء، بحيث يحل نموذج جديد للبحث العلمي يكون قادرا على حل الإشكاليات التي لم يستطع النموذج القديم حلها، ووقف أمامها عاجزا، وبذلك يبدأ علم جديد في التكون عبر التراكم، حتى يصل، عند نقطة معينة من التراكم، إلى أسئلة لا يستطيع الإجابة عنها، فيأتي نموذج جديد، وبهذا الشكل دخلت فيزياء الكم ونسبية أينشتاين للإجابة على أسئلة ما كانت فيزياء نيوتن قادرة على الإجابة عنها، بمثل ما أن فيزياء نيوتن شكلت نموذجا جديدا لحل أسئلة وإشكالات ما كانت فيزياء العصور السابقة قادرة على حلها. هذا التحول من نموذج إلى آخر هو ما يسميه كوهن «الباراديم»، أو النموذج الذي تتفق عليه جماعة العلماء في عصر من العصور على أنه المحدد للحقيقة العلمية، ولا يمكن اعتبار حقيقة من الحقائق علمية إلا باتباعها النموذج المعتمد للوصول إلى الحقيقة.

المهم في الأمر هو أن الحاجة إلى «باراديم» جديد تنبع حين يعجز «الباراديم» القديم عن إجابة أسئلة تطرح نفسها مع وصول التراكم العلمي إلى نقطة معينة، يبدأ فيها بإعادة إنتاج نفسه دون أن يكون هناك جديد، كما حدث في حالة الفقه الإسلامي، ودون الوصول إلى إجابات شافية لأسئلة مُلحة. بطبيعة الحال لا يستسلم «الباراديم» القديم بسهولة، بل هو يحاول التشبث بالبقاء عن طريق الالتفاف حول الأسئلة الجديدة والإشكالات الناشئة، ومحاولة إيجاد إجابات لها اعتمادا على ذاته، ولكنه في النهاية لا يستطيع البقاء لأن طبيعته، أو لنقل تركيبته وتكوينه لا يساعدانه على الإجابة السليمة، وذلك مثل عجوز يحاول مجاراة شاب في سباق المارثون. المؤسسون لـ«الباراديم» الجديد هم من استطاعوا الانفكاك من أسر الصندوق وما في الصندوق من أفكار وتحديدات وتوجهات كانت ناجعة وقتها، ولكنها لم تعد كذلك مع تغيرات الزمان والمكان والمشكلات الجديدة الحادثة.

والحقيقة أن الحديث هنا ليس عن القطيعة المعرفية في تاريخ العلم بقدر ما أن المراد هو إخضاع الثقافات لمفهوم القطيعة هذا، ومفهوم «الباراديم» مطبق على الثقافات والمجتمعات، وخاصة فيما يتعلق بالثقافة العربية في هذا العصر، والمجتمعات العربية في هذا الزمان، وعلاقتها بالمشكلات الجديدة التي تواجهها، وكيفية إجابتها على تلك الأسئلة التي تثيرها تلك المشكلات وضرورة حلها. وفي هذا المجال، أستطيع القول إن ثقافتنا المعيشة اليوم، والعقل الجمعي لدينا، ما زالا حبيسي صندوق تراكم فيه صالح وطالح امتزجا، بحيث لا نستطيع في النهاية تمييز الصالح من الطالح، ناهيك عن الفصل بينهما، وبذلك نجابه مشكلاتنا المعاصرة والأسئلة التي تواجه مجتمعاتنا بعدة غير صالحة للإجابة عنها وحلها بالتالي، و«باراديم» لم يعد صالحا لتقديم أجوبة حديثة لأسئلة ومشكلات جديدة، وسواء كنا في ذلك نتحدث عن الثقافة أو المجتمع. كل ذلك يحدث نتيجة مبررات وآليات دفاع يقدمها «الباراديم» القديم، وحراس هذا «الباراديم» بطبيعة الحال، في محاولته للبقاء والاستمرار رغم عدم قدرته على طرح الحلول والأجوبة المناسبة. من هذه المبررات والآليات القول بالتفرد والخصوصية، أو الخوف على الهوية من رياح التغيير، أو الحفاظ على أصالة مفترضة في وجه معاصرة جارفة، أو حفاظا على العادات والتقاليد، وغير ذلك من مبررات هي في حقيقة أمرها آليات دفاع يقوم بها «الباراديم» القديم من أجل استمرار بقائه، وبقاء الصندوق مغلقا محتفظا بكل ما فيه دون تغيير أي شيء من المحتوى، حتى وإن كان الثمن هو جمود المجتمع وسكون الثقافة وذبول الكيان، فـ«الباراديم» وحراسه يتحولون في النهاية إلى كيان مستقل، لا همّ له إلا بقاؤه، ولا غاية له إلا استمرار وجوده، وذاك لا يكون إلا إذا أصبح العقل، البسيط والمعقد معا، أسير صندوق يحدد «الباراديم» المهيمن شكله ولونه وعمقه وحجمه، وأهم من ذلك كله محتوياته، بحيث يتحول كل شيء إلى مقدس لا يجوز المساس به، رغم أن مساحة المقدس ضئيلة جدا حين إمعان النظر، ولكن قراءة هذا المقدس، وهي جهد بشري محض، هي المتسعة، ولكنها تبقى جهدا بشريا في نهاية المطاف يؤخذ منه ويرد.

فلو نظرنا إلى النصوص المؤسسة لأي كيان ثقافي أو اجتماعي، وهي نصوص مقدسة لدى أصحابها، وسواء كانت دينية المحتوى أو دنيويته، فإننا نجدها محدودة معدودة، ولكن قراءتها وتأويلها وتأويل التأويل، يجعل من هذه النصوص وشروحاتها والفهم المختلف لها ثقافة كاملة شاملة لها حراسها والقائمون عليها، ويتجسد بعض هذه القراءات في مؤسسات سياسية واجتماعية تصبح وظيفتها الأولى الحفاظ على ذاتها في وجه عوامل التغيير والتجدد. أن يتحول نص ما إلى ثقافة شاملة محركة للأفراد والجماعات، وأن يكون أساسا لقيام كيان اجتماعي أو سياسي أو هما معا، مسألة لا غبار عليها، فكل الكيانات والحضارات في التاريخ إنما قامت بناء على نص مؤسس، وهذه مسألة مما هو معلوم بالضرورة لدى دارس التاريخ وفلسفة التاريخ، ولا مشكلة هنا. المشكلة تبدأ في النشوء حين تبدأ قداسة من نوع معين تغلف قراءة نص ما أو تأويله وتفسيره على حساب ذات النص الذي يتحول إلى نص مغلق يتجمد عند تفسير معين أو قراءة معينة دون غيرها، فيما هو في أساسه نص مجرد، أي نص مفتوح قابل لمختلف القراءات، وهنا تكمن حيويته ومصدر طاقته واستمراريته. حين يصل مجتمع ما أو ثقافة ما إلى هذه النقطة، أي إغلاق النص عن طريق تجميده عند فهم معين وقراءة معينة، أي التوقف عند «باراديم» معين حسب مفاهيم كوهن، ولذلك أسباب مجتمعية وسياسية في المقام الأول يطول شرحها، يبدأ الكيان في الذبول نتيجة عدم وجود مدخلات جديدة قادرة على منحه الصحة والعافية وإمكانية تجديد خلاياه. بمثل هذا الشكل ذبلت الحضارة العربية الإسلامية حين ضاعت في أعماق صندوق مغلق، جمد العقل، ولم يسمح بدخول مكونات جديدة إليه، فأخذ يستنبط النصوص من النصوص ومن نصوص النصوص، حتى تحول إلى كائن ينهش نفسه بنفسه، وهكذا انهارت هذه الحضارة في النهاية، في الوقت الذي غيرت فيه أوروبا من نموذجها و«بارادايمها» والزاوية التي تنظر من خلالها إلى العالم من حولها، فسادت وهي التي كانت بائدة. وبمثل هذا الشكل سقط الاتحاد السوفيتي حين أصبحت الإيديولوجيا بكل انغلاقها، بل وتفسير معين للنص الإيديولوجي، هو المحور الذي تدور حوله الحياة الثقافية والاجتماعية السوفيتية، على العكس من الصين التي سمحت بانفتاح النص إلى حد كبير، فتجنبت مصيرا كالمصير السوفيتي.

انطلاقا من هذا كله، فإني أظن أن أزمتنا في العالم العربي هي أزمة عقل منغلق على ذاته، أو صندوق مغلق مليء بمفاهيم غير قادرة على استيعاب العالم من حولها، وبالتالي غير قادرة على فهمه والمشاركة في إنجازاته، لأن الإنجاز الجديد يحتاج إلى مفهوم جديد، والمفهوم الجديد يحتاج إلى عقل جديد، والعقل الجديد لا يمكن أن يتم دون قطيعة معرفية بهذا الشكل أو ذاك، والقطيعة المعرفية لا يمكن أن تتم دون إعادة ملء الصندوق بكل جديد ومستجد. نعم أزمتنا في عالم اليوم هي أزمة عقل ومعرفة، وأزمة صندوق أشد متانة من الصندوق الأسود، قبل أن تكون أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فكل هذه الأمور هي مجرد نتائج وليست مسببات، نتائج لأزمة عقل لا يريد أن يواكب عقل اليوم، ومعرفة لا تريد أن تتواءم مع المعرفة في عالم اليوم.