عندما كادت هيلاري أن تبدأ الغناء

TT

ما الذي يجري في البيت الأبيض؟

لقد رسم الرئيس باراك أوباما قبل عام، سياسة علنية وصريحة تقول إنه يريد تحسين علاقاته مع العالم الإسلامي، لأنه، حسب قوله، لم يعد ينظر إلى العالم الإسلامي كخطر تجب مواجهته. ورفع الرئيس أوباما في هذا السياق شعار الحوار.

حدث هذا علنا، أما سرا فقيل: إن الإدارة الأميركية تجري اتصالات مع الدول الإسلامية البارزة، وتطلب منها مساعدتها في إنهاء أزمات أميركا مع العالم الإسلامي، وهي بالتحديد أربع أزمات، مع أفغانستان، وباكستان، وإيران، والعراق. وكل ذلك مقابل استعداد أميركي لعمل جدي على صعيد تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وتطبيقا لذلك أعلن الرئيس أوباما شعاره القائل بأن على إسرائيل أن توقف الاستيطان وقفا كاملا، تهيئة للمناخ اللازم للمفاوضات.

وقيل سرا أيضا. إن الفرصة سانحة أمام الدول الإسلامية، لكي تحدد مطالبها من الولايات المتحدة الأميركية مقابل الوساطات المطلوبة منها. وساد شعور بأن هذه المطالب ستتحقق، لأن هذه هي المرة الأولى التي تشعر فيها الولايات المتحدة أنها تواجه أزمات كبيرة داخل العالم الإسلامي تكاد تقترب بها من الهزيمة، وهي أيضا المرة الأولى التي تحتاج فيها الولايات المتحدة إلى مساعدة الدول الإسلامية. وهي أيضا المرة الأولى التي تتوافر فيها شروط مساومة سياسية ناجحة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، ومن الممكن أن تجد صداها في فلسطين.

وبين الأقوال العلنية والسرية، بدأ المواطن العربي ينتظر ويترقب، وسادت في هذا الانتظار والترقب مرحلة تفاؤل ومرحلة تشاؤم. ساد التفاؤل حين ألقى أوباما خطابه الشهير الموجه إلى العالم الإسلامي من على منبر جامعة القاهرة. وساد التشاؤم حين واصلت الإدارة الأميركية ممارسة سياسة عسكرية مناقضة بالكامل لكل ما ورد في خطاب أوباما هذا. إذ استمرت الحرب وتواصلت في أفغانستان، وتطورت الحرب واتسعت في باكستان، واستمر الوضع في العراق على حاله، حتى أن القيادة العسكرية الأميركية أعلنت أنها قد تؤجل انسحابها (!!) إذا لم تجر الانتخابات هناك. أما التوتير مع إيران، واستعمال هراوة إسرائيل في تهديدها، فقد استمر وتواصل مترافقا مع دعوات الحوار.

وهنا بدأ المراقبون يتساءلون: هل بدأت الدول الإسلامية وساطة ما؟ وهل نجحت هذه الوساطة أم لا؟ وهنا طرح المراقبون سؤالا آخر: هل كان هناك أصلا طلب أميركي من الدول الإسلامية بأن تتوسط لحل النزاعات القائمة؟ أم أن الأمر لم يعدُ أن يكون مبادرة إعلامية أطلقها الرئيس أوباما، ولم تجد طريقها لكي تترجم أبدا إلى سياسة فعلية.

لا نعرف جوابا دقيقا على هذه الأسئلة، ولكننا نعرف جوابا قريبا من الدقة، لما جرى حول الموضوع الفلسطيني، والذي يفترض أنه سيسير مترافقا مع الوساطة الإسلامية. لقد أسند تحريك الموضوع الفلسطيني إلى المبعوث الأميركي جورج ميتشل، المرتبط مباشرة بالرئيس أوباما، وبعيدا عن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، لأنها معروفة بولاءاتها الصهيونية. وجاء ميتشل وتحدث وشرح وطلب، بروح سياسية جديدة للعمل، أساسها أن على إسرائيل أن تتوقف عن عدوانيتها في موضوع الاستيطان. ودعم الرئيس أوباما هذا النهج بقوة، وواصل الضغط على إسرائيل بالاتجاه ذاته. وفجأة بدأت الأمور تتغير شيئا فشيئا. أعلن الرئيس أوباما أن وقف الاستيطان ليس شرطا لاستئناف المفاوضات. أعلن مسؤول أميركي آخر باسم البيت الأبيض أن المفاوضات يجب أن تستمر من دون شروط مسبقة. ثم جرى تغيير ملفت للنظر، تم سحب المبعوث ميتشل من التداول، وتم طرح وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون مندوبة معتمدة، وعلى تفاهم كامل مع الرئيس كما قالت. ومع قدومها تحول التراجع السياسي والإعلامي الأميركي إلى ضغط على المفاوض الفلسطيني محمود عباس، ولكي يتراجع عن تأييده للشرط الذي طرحه الرئيس أوباما، الشرط المتعلق بوقف الاستيطان. وبعد الضغوط على عباس، بدأ المديح للموقف الإسرائيلي (موقف لجم اندفاع الاستيطان)، وقيل إنه موقف لا سابق له، حتى أن الأميركيين لم يكتشفوا ذلك حتى الآن.

في هذا السياق، ذهبت هيلاري كلينتون إلى أبوظبي، واجتمعت هناك مع محمود عباس، وأبلغته مطلبها بأن ينخرط فورا بالمفاوضات مع نتنياهو، بعيدا عن الاستيطان والمستوطنات والقدس، فرفض. واجتمعت مع نتنياهو فسرَّ ورحب وانتشى، حتى أن المؤتمر الصحافي الذي عقداه بعد لقائهما كان فريدا من نوعه في إبداء الفرح والسرور. وإليكم نماذج مما جرى فيه:

موقف أول: الصحافي يسأل السيدة هيلاري: أيتها السيدة وزيرة الخارجية، عندما كنت هنا في مارس (آذار) الماضي خلال زيارتك الأولى، أصدرت بيانا شديد اللهجة يدين هدم منازل في شرقي أورشليم القدس، غير أن عمليات الهدم قد استمرت بلا هوادة، حيث كان رئيس بلدية القدس قد أصدر قبل أيام أمرا جديدا بالهدم. كيف تعرفين هذه السياسة حاليا؟ والسيدة كلينتون ترد على السؤال وتقول: دعني أقول إنه ليس لدي ما أضيفه إلى تصريحي في مارس (آذار) الماضي. إنني لا أزال متمسكة بالموقف الذي قلته آنذاك.

وهكذا تتواصل التصريحات الأميركية، ولكن لا يبقى منها سوى الضغط على الفلسطينيين ليعودوا إلى المفاوضات.

موقف ثان: سأل صحافي السيدة كلينتون، بعد أن لاحظ سرورها أثناء المؤتمر الصحافي: سيدة كلينتون، أرجو سؤالك لماذا تختلف هذه الليلة عن غيرها من الليالي؟ وجاءه الرد فورا: هل تريدوننا أن نبدأ الغناء؟

موقف ثالث: عرضه نتنياهو وكأنه يحكي قصة، وذلك حين سأله صحافي «عن تزايد التوتر في المنطقة المحيطة بجبل الهيكل (الحرم القدسي الشريف)، ومظاهر العصيان المدني في الشوارع، واحتمال بروز حالة عنف جديدة (انتفاضة).

الرئيس نتنياهو يرد على السؤال ويروي قصة شخصية، يقول: قبل عدة أسابيع قررت قضاء سهرة في البلدة القديمة (القدس)، في مدينة داوود، حيث يوجد هناك مطعم صغير، وقد توجه حراس الأمن إلى هناك، إلا أن وكالة أنباء فلسطينية نقلت قصة مفادها أن نتنياهو يتوجه إلى البلدة القديمة لشق نفق جديد تحت جبل الهيكل (المسجد الأقصى). العياذ بالله (يقول نتنياهو)، ويواصل: ترددت شائعات تفيد بأن أعمال العنف ستندلع مثلما قلت تماما، وكان الأمر محض أكذوبة، وهناك أمثلة يومية متكررة على هذا الأمر، وإجراءات يومية تتخذها عناصر متشددة، خاصة متشددين إسلاميين يحاولون تأجيج المشاكل حول جبل الهيكل (المسجد الأقصى).

وهكذا تكون الصورة اليومية لما يجري في القدس، هي حسب نتنياهو كما يلي: اليهود يذهبون إلى القدس ليتناولوا الطعام، بينما يقوم الإسلاميون المتشددون بتأجيج المشاكل. وأما الحفر، وأما هدم البيوت، وأما طرد العائلات من منازلها علنا أمام كاميرات التلفزيون، فهو تحريض يقوم به المتشددون.

ووسط هذا الجو الاجتماعي المرح، كان يحق للسيدة هيلاري أن تسأل: هل تريدوننا أن نبدأ الغناء؟

وبانتظار الرد لا بد من تكرار السؤال: ما الذي يجري في البيت الأبيض؟ كيف تحول مطلب وقف الاستيطان الأميركي إلى ضرورة إجراء مفاوضات من دون شروط مسبقة؟ كيف تحول تبني محمود عباس لمطلب نتنياهو إلى موقف فلسطيني معرقل للمفاوضات؟ كيف تحول رفض نتنياهو لمطلب الرئيس الأميركي إلى موقف إسرائيلي إيجابي لا سابق له؟

بانتظار الرد نريد أن نسأل: هل تلاشى خطاب أوباما عن علاقة جديدة مع العالم الإسلامي؟ وهل ستتواصل الحروب في أفغانستان وباكستان والعراق، وفي فلسطين هذه المرة؟

وسؤال أخير: هل بدأت هناك في البيت الأبيض حفلة غناء أخرى؟

وماذا سيفعل المسكين جورج ميتشل الآن؟ هل سيحال إلى التقاعد، كما تحضر السلطة الفلسطينية لإعلان قائمة إحالة على التقاعد لستة آلاف شخص من كوادر منظمة التحرير الفلسطينية؟