الخداع وازدواجية المعايير في سياسات الدول

TT

ليس من قبيل المبالغة القول ان العلاقات الدولية خلال القرن الماضي اتسمت بالخداع وازدواجية المعايير. وقد ظهر هذا جليا للأسف، ليس في السياسات الخارجية للدول العظمى والمتقدمة وحسب ولكن في سياسات بعض الدول النامية والحركات السياسية و«الثورية» ايضا.

وبالرغم من الاختلاف بين الخداع الذي ينطوي أساساً على نية مسبقة بعدم الالتزام بالوعود والتعهدات التي يقطعها طرف من الاطراف على نفسه لطرف آخر والتخطيط في نفس الوقت لتنفيذ نقيض تلك الالتزامات من ناحية، وبين ازوداجية المعايير التي تقوم على تجنب تطبيق نفس المبادئ والقوانين والاجراءات على قضيتين متشابهتين وذلك لاعتبارات خاصة تخدم مصلحة الدولة المعنية من ناحية أخرى، بالرغم من هذا الاختلاف بينهما، الا انهما ينطويان على معان ومدلولات ونتائج تتنافى أصلا مع مبادئ الاخلاق الفاضلة والصدق وكذلك مع كل الاعراف الدولية والقوانين المرعية الاجراء في العلاقات الدولية.

الخداع في السياسة الأمريكية تعتبر كلمة «الحرية» جزءا لا يتجزأ من الدستور الامريكي الذي اعتمد عام 1776، والذي اكد على حق جميع المواطنين بالحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة. ولكن من المفارقات العجيبة ان الولايات المتحدة الامريكية بقيت الدولة الوحيدة من بين جميع الدول الغربية الديمقراطية التي ابقت على العبودية حتى بعد فترة طويلة من الغائها في الدول الغربية الأخرى، اضف الى ذلك ان الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي عزلت المواطنين الأصليين (الهنود الحمر) في مستعمرات مغلقة واستمرت بتطبيق سياسة التفرقة العنصرية.

اذا كان ذلك هو الوضع على الصعيد الداخلي، فكيف هي سياسة الولايات المتحدة الخارجية؟ كدولة قطعت على نفسها وعدا بدعم الحرية وحق تقرير المصير للشعوب في جميع انحاء العالم، أقامت الولايات المتحدة علاقات ودية مع العديد من الانظمة الدكتاتورية التي لا تمت بصلة من قريب أو بعيد بالديمقراطية أو الحرية أو احترام حقوق الانسان، ويتساءل العديد من المراقبين اذا ما كان نظام كاسترو Castro في كوبا اسوأ من الانظمة الاخرى التي تعاقبت على حكم هاييتي والسلفادور وجواتيمالا التي لا تزال واشنطن تقيم معها علاقات ودية؟! إلا ان التناقض الصارخ بين التبني النظري «للحرية» من ناحية والممارسات العملية على أرض الواقع من ناحية أخرى، ظهر جليا وبشكل فاضح في منطقة جنوب شرق آسيا. في نهاية الحرب العالمية الثانية استدعى «هوشي منه» Ho Chi Minh ضابطا امريكيا يدعى «باتي» Patty، وطلب منه مساعدته على وضع دستور لدولة فيتنام يتم التصديق عليه بعد الاستقلال. تشجع «باتي» للفكرة ووضع دستوراً معتمداً في ذلك على ما كان عالقا في ذاكرته من الدستور الامريكي الذي يؤكد اصلا على الحق بالحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة. ولكن بعد هزيمة فرنسا في فيتنام عاد الامريكيون الى المسرح السياسي ووعدوا باجراء انتخابات عامة في البلد. وعندما تبين للامريكيين في عام 1956 ان الفيتناميين قد ينتخبون حكومة شيوعية، تلاشى اهتمام واشنطن باقامة «انتخابات حرة» وعمل الرئيس الامريكي ايزنهاور على منع الفيتناميين من تحقيق آمالهم وتطلعاتهم السياسية، وايدت واشنطن المرشح «ديين دييم» Diem Deinh المعروف بمعاداته للشيوعية، ولكن لتقوم بعد ذلك بتأييد اغتياله عندما وجدت ان اعماله الوحشية وانتشار الفساد في ادارته «لا يخدمان قضية الحرية». وفي اطار جهودها لدعم خلفاء «ديين دييم» استخدمت واشنطن الاسلحة الكيماوية والقنابل العنقودية وقنابل النابالم التي اودت بحياة مئات الألوف من المدنيين الابرياء. اما الرئيس الامريكي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر فقد فشلا في اطلاع الشعب الامريكي على ان الشيوعيين في فيتنام كانوا على استعداد للتوصل الى سلام مشرف مع الحزب الديمقراطي، الامر الذي ادى في نهاية المطاف الى محافظة الجمهوريين على استمرار النزاع حتى عام 1975، وعندما اندحرت القوات الامريكية واضطرت الى الانسحاب ضربت عرض الحائط جميع الوعود التي قطعتها لحماية «حرية» المعادين للشيوعية.

إن الأمثلة على خيانة الولايات المتحدة لاصدقائها واعتمادها المعايير المزدوجة اكثر من ان تعد أو تحصى، الم تتخل واشنطن عن شاه ايران، واعتقلت حليفها السابق نورييغا Noriega بتهمة المتاجرة بالمخدرات؟ أما سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وازدواجية المعايير التي تنتهجها في الصراع العربي ـ الاسرائيلي فتتحدث عن نفسها، فهي تتهم من يحاربون الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان وفلسطين بالارهاب بينما تتغاضى عن ارهاب الدولة الاسرائيلية وما تقوم به من اعمال قتل للابرياء وتدمير للمنازل وتجريف للاراضي الزراعية وتستخدم حق النقض لمنع ارسال مراقبين دوليين للوقوف على ما وصفه الامين العام للامم المتحدة «كوفي عنان» Kofi Anan بأنه «استخدام مفرط للاسلحة» ضد المدنيين.

خيانة الأصدقاء ودعم الأعداء في احدى المناسبات الرسمية قال لينين Lenin: «ان كل شيء جيد طالما انه يخدم الثورة، ولذلك فإنه ليس هناك من عائق أمام اقامة تحالف مؤقت طبعا، مع اعداء الشيوعية طالما ان الشيوعيين هم أول المستفيدين من هذا التحالف». لقد أدت هذه الفكرة بالكرملين الى اتباع سياسة اتسمت بالتناقض وافتقرت للمصداقية. ففي العشرينات من القرن الماضي، على سبيل المثال، عندما كان الاتحاد السوفياتي السابق يعاني من العزلة ويتعرض لضغوط هائلة من المعسكر الغربي، بادر الكرملين باصدار تعليماته الى الشيوعيين الألمان للتعاون الوثيق مع النازيين والحركات اليمينية المتطرفة الاخرى. لقد حدث الامر نفسه في ما بعد عندما هددت اليابان كلا من الاتحاد السوفياتي والصين، فقد اعلن الكرملين عن تأييده للوطنيين الصينيين على حساب الحزب الشيوعي الصيني، لأن الكرملين اعتقد في ذلك الوقت ان الحزب الشيوعي الصيني كان أضعف من ان يمثل معارضة فعالة لاطماع طوكيو التوسعية.

وكذلك في الثلاثينات من القرن الماضي أعطى الكرملين توجيهاته للحزب الشيوعي الالماني للتعاون والتنسيق مع النازيين ضد الحزب الديمقراطي الحاكم في وقت كانت البلاد تعاني فيه من الركود والبطالة. لقد أدى هذا التحالف الى نتائج مرضية ولكن ليس للشيوعيين الألمان الذين تعرضوا للابادة الجماعية بعد وصول هتلر Hitler للسلطة والذي لم يكن ليحقق اهدافه بدون مساعدة ودعم الشيوعيين الألمان.

في أواخر الثلاثينات وصلت هذه السياسة القائمة على خيانة الاصدقاء ودعم الاعداء الى ذروتها. ففي نفس الوقت الذي كان يحاول فيه الكرملين اقامة تحالف مع الدول الديمقراطية في الغرب ضد الفاشية، كان ستالين Stalin ومن وراء الكواليس، يحاول التوصل الى اتفاق مع المانيا النازية ضد الديمقراطيات الغربية، ويدرس في نفس الوقت اقتراحاً حول امكانية اقامة حلف يجمع روسيا وايطاليا الفاشية والنمسا ضد ألمانيا النازية! بعد توقيع الاتفاق بين ستالين وهتلر في اغسطس 1939، سعى ستالين جاهدا لاقناع هتلر بنياته الطيبة وذلك من خلال تشجيع الشيوعيين على عدم القيام بعمليات ضد النازيين في أوروبا الغربية وحضهم على التعاون والتنسيق مع الادارات الجديدة في المناطق التي خضعت للاحتلال الألماني، وليس أدل على ذلك من تصريح نشر في صحيفة نرويجية شيوعية في 22 ابريل 1940، وجاء على النحو التالي: «ان من مصلحة الشعب النرويجي التوقف عن مقاومة الاحتلال» ان هذا التصريح لا يختلف في شيء عن التصريحات التي كانت تنشر في صحافة الخونة النرويجيين المتعاونين مع سلطات الاحتلال الألمانية.

ولكن عندما شنت ألمانيا هجوما كاسحا على الاتحاد السوفياتي في يونيو 1941، تخلى الكرملين فجأة عن سياسة منع الشيوعيين من مقاومة الاحتلال ولكن ليس قبل ان يفقد الآلاف من الشيوعيين في المانيا والصين واماكن اخرى من اوروبا ارواحهم نتيجة لتلك السياسة، وجعلت كذلك العديد من الاحزاب اليسارية في اوروبا، التي كانت تتعاطف مع الشيوعية السوفياتية الى النظر اليها بعين الريبة وحتى العداء في كثير من الاحيان.

الهند وخيانة المبادئ تعهد رئيس الوزراء الهندي «نهرو» Nehru بتقديم منهج جديد في السياسة عندما خاطب شعبه قائلا «ان الهند تعتزم استنهاض العنف الاخلاقي الكامن في الجنس البشري والتخلي عن سياسة القوة». ونتيجة لذلك جعل الشعب الهندي يعتقد انه يتمتع بنوع من التفوق الاخلاقي، واعتمد على أفكار غاندي Gandhi التي تنبذ العنف لدعم توشl]الجديد. لقد كان هذا شيئا رائعا من الناحية النظرية ولكن على ارض الواقع فإن الخلافات الداخلية والعلاقات المتوترة مع دول الجوار والاحتلال الوحشي لكشمير ذات الاغلبية المسلمة، والتي طالما أكدت بشكل لا يقبل الشك عدم رغبتها بأن تكون جزءاً من الهند، أدى الى نشوب حروب مع باكستان والصين والتخلي عن فكرة التعايش السلمي، وباختصار يمكن القول ان الوعد بانتهاج سياسة اخلاقية جديدة لم يكتب له النجاح مثله مثل الوعود الكثيرة التي قطعتها العديد من الدول على نفسها بما في ذلك بريطانيا.

* كاتب من السعودية