حوار بغداد مع الأكراد.. بين التاكتيك السياسي والمسؤولية الوطنية

TT

لم يكن متوقعاً ان تعدّ منضدة الحوار في العاصمة العراقية فور الدعوة التي اطلقها الرئيس العراقي صدام حسين في الخامس عشر من تموز (يوليو) الماضي للأكراد، وردّ قيادتي (الطالباني والبارزاني) المشترك والمتوازن. فكما أشرنا في مناسبة سابقة بأن للدعوة أغراضا تتجاوز بنسبة كبيرة نقطتي (اربيل والسليمانية) في كردستان العراق، الى العاصمة الأميركية (واشنطن) التي تشكّل ردود فعلها المباشرة وغير المباشرة بالنسبة لبغداد المؤشر على مستوى واتجاهات وأهداف التعامل الميدانية مع النظام العراقي، وطبيعة المسار المخفي من السياسة الأميركية الذي لا بد ان تنعكس مؤشراته على الساحة الكردية، وعلى سلوك وردود فعل القيادتين الكرديتين تجاه المركز بسبب صلاتهما العميقة مع القيادات الأميركية السياسية والاستخبارية حيث يساعد الحوار معها على قراءة السيناريو الأميركي في التعامل مع الشأن العراقي، حتى وان لم يظهر ذلك على صعيد الاعلام حين تتحول المعلومة الى خبر مشاع، وليس استحضاراً لمشروع او برنامج ميداني فعلي داخل الساحة العراقية.. وعلى الرغم من وضوح المبادئ السياسية لبيان الأكراد إلا انه لم يعط استبيانات كاملة ومفيدة لبغداد لأنه حمل الكثير من الخطوط الرمادية ذات الاحتمالات العديدة، والوقوف عند عتبات ابواب الحوار، وليس بعيداً عنها أو داخلها.. مما قدم للقيادة السياسية العراقية قراءة لا تخدمها (لوجستياً) فالرد لم يحمل لغة شديدة ترمز الى حالة انتظار عمل اميركي جدي للتغيير في العراق، وبنفس الوقت لم تكن لغة تنازل ترمز الى اختناق تعيشه القيادتان الكرديتان في الظرف الراهن.

* تفاؤل مرفوض وليس بالضرورة ان يظهر موقف رسمي معلن من بغداد على الرد الكردي، كما ان انعدام المتابعة الاعلامية في كل من أربيل والسليمانية لا يعني إهمال مسألة الحوار، كما ان التصريح الثانوي الناقد الصادر من أحد مسؤولي تنظيم كردي موال للحكومة مقيم في بغداد، لا يشكل موقفاً حكومياً مباشراً، كما انه لا يحمل دلالات جدية يعتمد عليها المسؤولون الأكراد. كما لا يدل على ان الأغراض المجسية المصممة لاطلاق دعوة الحوار قد حققت اهدافها، بل ان الاحتمال الأكثر قوة هو عدم وضع مسألة الحوار على هامش اهتمامات بغداد، وقد يكون هذا التفاؤل مرفوضا من قبل المتشائمين بين غالبية الأوساط السياسية والثقافية الكردية في منطقة كردستان، الذين يستحضرون وقائع جراح الماضي التي سبقت عام 91 كقاعدة للحكم المسبق على توجهات كل من قيادتي (الطالباني والبارزاني) اللتين تتحملان مسؤولية قيادة الشعب الكردي في حالته الراهنة التي وفّرتها نتائج حرب (عاصفة الصحراء) على قيادة السلطة في بغداد، كما تتدخل مواقف التشكيلات العراقية المعارضة في الخارج في مضاعفة عناصر التشاؤم، وتحريض القيادات الكردية على عدم الاستجابة لدعوة الحوار، لأنها ستؤدي الى تفتيت الشعار الاستراتيجي الذي ظلّ محور الفعاليات السياسية والاعلامية في الخارج (إسقاط نظام الحكم) ويفتح الباب من داخل أرض العراق لتجديد شعار الحوار الوطني كبديل عن فشل الجماعات العراقية المعارضة لعشر سنوات في تحقيق أي من مستلزماته الذاتية والموضوعية، ولافتقاد بعض تلك الجماعات للشروط النضالية الوطنية، وهي المتصدرة لساحة العمل الاعلامي، وارتهانها لقرارات وسياسات الولايات المتحدة تجاه الملف العراقي، من تحقيق هدف الاسقاط الذي لا بد وان تسبقه في الحدود الدنيا «وحدة الموقف». في حين ان القيادتين الكرديتين قد انتقلتا من وعي وتقدير مواقف (المجموعة المقاتلة في الجبل وفق تراث حرب العصابات الى مرحلة الوعي السياسي المدني المسؤول الذي تحققت نسبة غير قليلة من مستلزماته بعد عشر سنوات، وتنامي الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية والادارية تجاه المواطنين الأكراد، والاحتكاك الحقيقي بهمومهم، وحاجاتهم اليومية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والدخول في معركة بناء الانسان المدنية والحضارية من خلال توفير قواعد الثقافة السياسية الديمقراطية وحرية التعبير بحدود الظروف المحلية لمنطقة كردستان، وادارة حالة الصراع للتغلب على قطب العودة الى اجواء القتال بين الأكراد انفسهم حينما انعدم مع جيش الحكومة، لأن هذا القطب ما زال له رجاله ومناصروه، وليس بالضرورة ان يكونوا من بين أوساط القيادات والكوادر السياسية الواعية، بل قد يكون من بين منتفعي المكاسب الذاتية، وكذلك ما خلقته الظروف الجديدة من ظهور تيارات واتجاهات متطرفة تحاول الدخول الطارئ في ساحة العمل السياسي الكردي.

* القبول بالآخر ضروري لقد أصبح قبول حالة «الحوار» بالنسبة للأكراد اليوم «يشكل حاجة حقيقية لتدعيم قواعد البناء المدني في منطقة كردستان، ولم يعد حالة تاكتيكية سياسية، تعاملت مع المعطيات اللوجستية لفترة العقود الثلاثة السابقة، ولا يمكن لأحكامها في الغلبة او الخسارة العسكرية المخلفة للضحايا والخسائر لأبناء العراق وجود في اهتمامات اليوم.. هذا الإصرار الكردي على القبول بالحوار، وفق ما عرضته من مستلزمات سياسية توفر قدرا من الضمانات، وتشكل قاعدة للانتقال بالعراق من حالة الانفراد السياسي في الحكم، الى القبول بالآخر الوطني كمشارك في مسؤوليات اخراج الوطن من محنته الكارثية التي كانت نتيجة من نتائج الانفراد في القرارات المصيرية والتاريخية، وهذا الآخر الوطني (الكردي) يمكن ان يكون انموذجاً عملياً بعد الخسائر التي لحقت بالمشروع الوطني العراقي، ومعاناة ابناء العراق من العرب والأكراد والتركمان وغيرهم من الأقليات القومية والأثنية، وان قيادة السلطة في العراق فيما اذا أرادت الانتقال من زاوية رمي المسؤولية فيما حدث من محنة الحصار على الاعداء الخارجيين وحدهم، الى ساحة المسؤولية الوطنية الواسعة، فلا بد لها من التعامل بقضية الحوار مع الأكراد بروحية الحاضر ومسؤولياته، بعد أن تداخلت هذه القضية بأزمة العراق كله.

قد لا يراهن الأكراد على جدية الحكومة المركزية في تحقيق خطوة جادة على طريق اعادة الحوار.. لأن شرط الحكومة نزع مصدر قوتهم الحالي (المظلة الأمنية الأميركية والبريطانية) يصطدم برفضهم.. لعدم توفّر عنصر «الثقة»، والثقة حالة نفسية اكثر مما هي حالة واقعية، لكن بناءها يرتبط باجراءات واقعية تتحمل بغداد مسؤولية توفيرها بقرارات واجراءات سياسية تتعلق بالأكراد قبل غيرهم من أبناء العراق الذين تنعدم لديهم متطلبات الأمن والعدالة وحرية الرأي والتعبير.. انه اختبار جديد للنيات والسياسات، والقدرة على تجاوز سياسة مرحلة المحنة التي خلفتها كارثة اجتياح الكويت.

* سفير عراقي سابق [email protected]