هل صحيح أن الرجال مضطهدون في صراعهم مع المرأة؟

TT

ما الذي يفعله الزمن بالافكار الراديكالية، وكيف يعيد تشكيل عقلية اصحابها بحيث يعودون الى نقطة البداية، من حيث انقلبوا على ما كانوا يصفونه بـ«المحافظة»؟.. هل للزمن مفعول مهدئ للعاطفة الجياشة والافكار الثورية؟..

خطرت ببالي هذه التساؤلات وانا اقرأ تصريحات الروائية البريطانية المعروفة دوريس ليسنغ الاخيرة، في مهرجان ادنبره الثقافي الذي تقام فعالياته في اغسطس (اب) من كل عام. وملخص التصريح هجومها على ما خلفته الافكار النسوية من غبن حاد على الرجال «الطرف الصامت في الحرب الدائرة بين الجنسين. الطرف المضطهد الذي لا يجرؤ على الشكوى لئلا يتعرض لهجوم مجتمع مناصر للنساء»!. التصريح تناقلته الصحف، فاثار مجموعة من التعليقات بعضها كان حادا وهجوميا. لكن لم كل هذه الضجة؟.. اما من حق اي انسان في المجتمعات الديمقراطية ان يعبر عن رأيه، فلماذا الردّ على كاتبة استخدمت حقها في نقض ظاهرة اجتماعية؟..

لو لم تكن ليسنغ نفسها من رائدات الحركة النسوية في السبعينات، او ما يطلق عليهن بـ«جدات الحركة النسائية»، لاختلفت ربما حدة التعليقات المنتقدة لها، لكنها واحدة من اللواتي رفعن قبل ثلاثة عقود شعارات مثل «كل الرجال مغتصبون»، و«الزواج جريمة في حق المرأة»، و«الحرية الجنسية هي البديل»، الى اخره من تطرف بقي محصورا في دائرة ضيقة، وان كان قد ترك اثاره السلبية، واحيانا الايجابية على المجتمع في الثمانينات حتى الان. وما هي ايجابية حركة كهذه تعاملت مع الجنس الاخر، اي الرجال، بحقد وصل حدّ التصفية العرقية؟ اذا جاز لنا استخدام المصطلحات السياسية في هذا السياق. حسنا لقد تغير المجتمع البريطاني قليلا باتجاه تخفيف حدة الهيمنة الذكورية على المرأة، من ذلك، انه ما عاد الرجل يتوقع من زوجته اداء كل مسؤوليات البيت، اضافة لعملها خارجه. وعلى المستوى التشريعي لفتت قوة الضغط التي قامت بها الحركة النسوية، المسؤولين، الى ضرورة مساواة الجنسين في فرص العمل والرواتب. لكن كل ذلك بقي في حدود الضغط الخفيف، ولم يحقق المساواة العادلة المنشودة في فرص العمل، وفي الاجور. الكاتبة جانيت وينترسون علقت في صحيفة الغارديان، ان ليسنغ تعيش في كوكب اخر غير الارض، فهي اذ ترثي لحال الرجال المهمشين في المجتمع، فإن الواقع يقول مثلا، ان افضل واعلى الاجور المدفوعة للصحافيين والاعلاميين في بريطانيا، لا تزال تدفع للرجال، لا للنساء، وان نسبة حضور المرأة في الحكومة والمناصب القيادية السياسية نسبة لا تذكر، الى حد الغياب احيانا. واذا كانت النساء يسعين لتحقيق انفسهن بتصميم وارادة عاليتين، فـ«إن ذلك لا يعنى انهن يُدرن شوون العالم، او انهن يقدن مجتمعاتهن»!. الغريب ان كلام القائدة النسوية ليسنغ خرج على عواهنه ومن دون توثيق، فقبل شهور قليلة انتقدت المحررة الاقتصادية في صحيفة التايمز، الفارق الكبير الذي لا يزال يتحكم برواتب الرجال والنساء في بريطانيا، المجتمع الذي يعد الاسوأ بين الدول الاوروبية الاخرى في هذا المجال. واعتمادا على تقارير «لجنة الفرص المتساوية» المعنية بتحقيق العدالة بين الجنسين في مجالات مختلفة، فإن النساء العاملات بدوام جزئي يحصلن على 60 في المائة من رواتب زملائهن الرجال العاملين بدوام جزئي، بينما تحصل المرأة العاملة بدوام كامل في المتوسط، على 80 بالمائة من راتب زميلها الرجل.

اذا كانت ليسنغ اطلقت الكلام على عواهنه، بما يشبه صحوة الضمير، فان تصريحها يدعو للتساؤل، ما الذي حلّ بالمتطرفة النسوية كي تمطر جمهورها الحاضر في محاضرتها الاخيرة بكل هذا النقد القاسي التحريضي على بنات جنسها، راثية لحال الرجال لانهم غير قادرين حتى على الرد والمواجهة، بسبب الهيمنة الكبيرة للنساء في المجتمع، والرجال المتعاطفين معهن؟.. يتوارد الى الذهن ونحن المنتميات للاجيال اللاحقة على الحركة النسوية، ان رائدات تلك الحركة اخطأن في التكتيك. فهن بدلا من التركيز على مناقشة القوانين والتشريعات وتعديلها، ركزن على الشكليات، مثل رفض وضع الماكياج على الوجه، التدخين وشرب الكحول، رفض فكرة الزواج الخ. اضافة لذلك، فقد وجهن جهودهن لمحاربة الرجل وتشويه صورته التاريخية، اكثر مما فعلن لجذب الرجال لمناصرة قضاياهن، وتم التعامل في الاغلب مع قضية المرأة، كقضية خاصة بالنساء، لا دخل للرجال بها.

* المشكلة في المجتمع وليس في الرجل اذكر انه عندما زارت الدكتورة نوال السعداوي الكويت في مقتبل الثمانينات، جوبهت بهجوم شديد من قبل التيار المتشدد، وعلى الرغم من ذلك، التفت مجموعة من الفتيات حولها، متعطشات لسماع افكارها. كنا مجموعة افترشت الارض في غرفتها بالفندق، وكنا مبهورات انذاك، بكتابها «الوجه العاري للمرأة العربية». تحدثت د. السعداوي كثيرا عن المؤسسة الزوجية والاثار السلبية للزواج على المرأة، وربطت بين القهر الاجتماعي والسياسي والجنسي، وهاجمت هيمنة الرجل وطالبت بضرورة التصدي له. لم تكن محدثتنا تدّعي، فالمجتمع العربي لا يزال تحت سيطرة الرجال، وهم الذين ما زالوا يقررون في كثير من البيئات العربية، ان كان من حق الفتاة ان تكمل تعليمها ام لا، ويصادرون حقها في ان تختار زوج المستقبل، او ان تقرر الانفصال عنه ان تحولت حياتها معه الى نوع من العذاب. لا اشكك بنوايا الدكتورة السعداوي، لكن استمرارية تركيزها على الوجه القبيح للرجل، جعل كثيرات منا يجفلن من الدعوة على مرّ السنين. فالمعركة ليست مع الرجل، انها مع المجتمع الذي يصوغ هذه المفاهيم، وهناك نساء كثيرات شريكات متورطات بهذه الصياغة، بل اكثر تعصبا من الرجال فيها، سواء في معرض المزايدة على العقلية الذكورية ورجالها، ام عن اقتناع وتماه معها؟ ليسنغ والسعداوي وغيرهما من المناصرات والقائدات في الحركة النسوية، اجتهدن ولا اميل الى التشكيك بنواياهن، بل الى نقد مسار دعوتهن. ان طاقة العاملات بتلك الحركة، كما تذكرنا دوريس ليسنغ نفسها، ضاعت في حمأة جدل تلك الفترة، وكان الاجدر بهن التركيز على التغيير عبر التشريعات والقنوات الاخرى المتاحة في المجتمع. اما الرثاء، بعد عقود، للرجال، وللذكور الصغار الذين يحملون عبء خطايا اجدادهم، الصغار الذين بهتت صورتهم امام تفوق الفتيات في المجتمع، فلا يمكن تحميله كله للحركة النسوية. بعض المجتمعات غير قادرة على توفير فرص العمل للجميع، وتزداد فيها حالات الطلاق والامهات العازبات، وهذا يعني بالتالي غياب الاب، كما يشير الكاتب والمعلق ريتشارد موريسون في صحيفة التايمز. ويقول انه في ظل مجتمع بهذه الخصائص، يفتقد الاطفال النموذج الرجالي الاعلى في الاسرة والمدرسة، خاصة ان نسبة المعلمات اعلى بكثير من المعلمين في المرحلة الابتدائية، ومع ان هذه النسبة تكون لصالح المعلمين في المرحلة التالية، الا ان الابتدائية هي مرحلة تشكل الوعي لدى الطفل، الذي لا بد له من نموذج رجالي يكون قدوة له، سواء في البيت او في المدرسة. الفتيات يحتللن المساحة الاكبر في المشهد الاجتماعي، هذا صحيح، فهن الحاصلات على نسب النجاح الاكبر في الثانوية العامة والجامعة، بينما يتسرب كثير من الفتيان من المدرسة، ويتوه بعضهم ما بين العطالة والادمان والجريمة. الفتيات متفوقات، لكن بعد التخرج من الجامعة والبحث عن فرصة عمل، يحصل الشباب على النسبة الاعلى من هذه الفرص حسب تقرير اللجنة المذكورة! ما الحل اذن؟.. لا يرى المعلقون ان الحل يكمن في العودة الى الوراء، واالطلب من المرأة العودة الى البيت وترك العمل، فهذا اقتراح لا تتصوره حتى اكثر الطالبات كسلا في المدرسة. المجتمع هو المطالب بايجاد الحلول، اما هجوم ناشطة نسائية سابقة اصيبت بصحوة ضمير مفاجئة وهي في الواحدة والثمانين من العمر، فلا يجب ان يؤخذ كثيرا على محمل الجد. لقد ان الاوان للقيادات النسوية المتعصبة لبنات جنسها، ان تفكر قليلا بمصلحة المجتمع ككل، دون تحيز فاقع لطرف، فقد اثبت الزمن ان التعصب بكل اشكاله لا يصلح لحل اي قضية في العالم، بدءا من الصراع الطبقي، وانتهاء بالصراع بين الجنسين. [email protected]