غلطة الشاطر

TT

أخذت أشكو لأحد أصدقائي من تسلط رجل عليّ بالاتصال الدائم من جواله المحمول، ويا ليت المشكلة تتوقف عند اتصاله فقط، والسلام عليكم، وكيف الحال، ومع السلامة، ولكن المشكلة الحقيقية هي في كثرة ثرثرته وسؤالاته التي لا تنتهي سواء عن أحوالي الشخصية أو عن مشكلة الشرق الأوسط، أو عن الأزمة المالية العالمية.

وقد أصبحت حياتي أخيراً بالفعل وبدون أية مبالغة، ما هي إلا جحيم مصغّر، ولا يفزعني شيء في الدنيا أكثر من سماعي لرنة التلفون، وكلما سمعته يرن أردد لا شعورياً: (جاك الموت يا تارك الصلاة)، وتزداد المشكلة صعوبة بأنني لا أستطيع أن أقول لذلك الشخص (اخرس) مثلا، أو أعبر له عن انزعاجي من كثرة اتصالاته، لأنني أحتاجه بين الحين والآخر لما يتمتع به من نفوذ، ومن غلبي كنت دائماً قبل أن أرد عليه أعزي نفسي بالمثل القائل: (اللي يبي الدح لا يقول أح).

ولكن الكيل طفح عندي أخيراً لهذا لجأت لاستشارة ذلك الصديق وبثثت له حزني وشكواي وقلة حيلتي، فقال لي: اسمع، عندما يتصل بك أقفل في وجهه الخط.

قلت له: هل أنت مجنون؟!، كيف أقفل الخط في وجه من إذا تصعبت لي الأمور حلها؟!

قال: ما زال في عقلك بقية من غباء، إنني يا أخي أقصد أن تقفل الخط في وجهه عندما تكون أنت المتحدث، لأنه لا يخطر في بال من يستمع لك، أن تقفل الخط أنت على نفسك، وبعد أن تفعل ذلك أغلق التلفون لأنه في هذه الحالة يظن أن لا إرسال هناك بواسطة ضعف شبكة الاتصالات.

واستطرد يقول: إن إقفال شخص الخط على نفسه فيما هو يتكلم يشبه في اعتبار قواعد الأدب، الانتحار في اعتبار القانون، إنه خطأ لا تمكن المعاقبة عليه، وكلا الأمرين يشكلان حلا حاسما وإن يكن صارماً، لكن هذا قد يأتي كرد حاسم على موقف عسير، هل فهمت؟!

كنت أستمع مبهوراً لهذا الفاصل الفلسفي المنطقي من ذلك الصديق اللوذعي، فشكرته قائلا: والله إنها فكرة، وجزاك الله ألف ألف خير.

وفعلا ما هي إلا فترة وجيزة حتى أتاني الاتصال الموعود الذي كنت أترقبه على أحر من الجمر، فرددت عليه وأنا (أترقوّص) من شدة الفرح وما هي إلا أقل من دقيقة حتى أقفلت الخط وبعده أغلقت التلفون نهائياً. واستمررت على هذا المنوال عدّة مرات وعدة أيام، وتفاجأت بعد فترة أن ذلك الرجل لم يعد يتصل بي، وأخذني العجب، حيث أن ذلك ليس من عاداته، فاعتقدت أنه قد أصابه أمر جلل فإما أن يكون مريضاً أو أنه قد مات، فتشجعت واتصلت به أنا هذه المرّة، فأتاني صوته غاضباً وقال لي وهو (يرغي ويزبد): كيف تقفل في وجهي الخط دائماً يا قليل الحيا، ياللي ما تستحي، وياللي (فيك ما يخطيك) ـ ومعنى فيك ما يخطيك ـ: إنها منظومة متكاملة من الشتائم من العيار الثقيل التي تحبها قلوبكم. حاولت أن أعتذر بضعف شبكة التلفونات، غير أنه لم يتركني أن أكمل كلامي وأقفل هو الخط في وجهي، وما هي إلا عدّة ثوان وإذا به يتصل بي مرة ثانية قائلا لي: إياك ثم إياك أن تسمعني صوتك مرة أخرى، أو تريني وجهك العكر.

وأخذت أضرب (أخماساً بأسداس)، ولكن تبين لي فيما بعد أن (البقية الباقية من غباء) التي في عقلي هي التي كانت تسيطر عليّ في كل محادثاتي معه، إذ أنني نسيت أن أقفل الخط عندما كنت أتحدث أنا، ولكنني كنت أقفل الخط أثناء كلامه هو ـ وهذه هي غلطة الشاطر التي يقولون عنها: إنها (بألف غلطة).

وبعدها تعقدت أموري، ولم أجد من أستنجد به، ومن شدة غضبي قطعت علاقتي نهائياً بصديقي الذي نصحني، وكنت بذلك مثل (قصير الذي جدع أنفه)، وصدق من قال: إن (الغباء خبز عالمي)، ولا شك أنني قد أكلت من ذلك الخبز كمية لا بأس بها.